TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بين قبّعة ساسكيا الحمراء ولسان ماتيس

بين قبّعة ساسكيا الحمراء ولسان ماتيس

نشر في: 3 يناير, 2014: 09:01 م

قال ماتيس ذات مرة ( حين تريد أن تنظر إلى الرسم فعليك أن تقطع لسانك ) ، كان يقصد بالتأكيد أن أي فكرة سردية أو حكائية هي دخيلة على الرسم ولا تمت للفن التشكيلي بأية صلة . لكني أتساءل هنا ، هل كلام ماتيس كان صحيحاً ؟ وبمعنى آخر ، هل ينطبق كلامه على كل الفنون البصرية ؟ وهل يعني كلامه أننا كرسامين يجب أن نكسر فرش الرسم أمام أي حكاية أو سرد مؤثر؟ العملية برأيي هي مسألة شخصية بالنسبة لماتيس ، وعامة بالنسبة للرسامين الباقين . خذ مثلاً المدرسة الرمزية في الرسم وغرائبية حكاياتها وسحرية سردها الباهر كما في لوحات غوغان وريدون وروسيتي وتخطيطات بيردسلي المليئة بالغواية والفجور وميلايس ولوحاته الشهيرة ،ومنها لوحته عن غرق أوفيليا والأخرى للفتاة العمياء التي يظهر خلفها في السماء قوس قزح ملوّن ، وحتى أقنعة أنسور الشهيرة التي رسمها بعجائن كثيفة من اللون أو كليمت العظيم ونساؤه الفاتنات و أمثلة كثيرة أخرى . السرد موجود ومهم في الأعمال الفنية لكن يجب أن نعرف نوع الأعمال التشكيلية التي تتحمل السرد أكثر ، وهذا هو المهم ، وهنا ربما يبدو علينا أن ننتبه أكثر إلى الأعمال التشخيصية . لكن رغم ذلك فالعمل الفني مهما كان تجريدياً أو تشخيصياً يعبر في جوهره برأيي عن فكرة أو شكل ما يعود إلى الطبيعة ، حتى لطخة الفرشاة المجردة هي شيء موجود ومحاكاة للطخة فرشاة موجودة قبلها . الرسام يبدأ لوحته وفي ذهنه شيء غامض وبعيد ومبهم أحياناً وإلا فما معنى أن يرسم خوان ميرو لوحة تجريدية من بضعة خطوط وبقع لونية ثم يطلق عليها عنوان ( كلب ينبح نحو القمر ) ، و حتى جاكسون بولوك ولوحاته التي ينشر اللون السائل فوقها وهي موضوعة الأرض بتقنيته التي تتشابك فيها الخطوط والطبقات وهو يسير أحياناً فوق قماشة الرسم الملقاة على أرضية المرسم ، ورغم كل ما يبدو من عبث لوني وارتجال آني في سكب ألوانه على السطوح فهو قد أعطى لأعماله عناوين ثابته وواضحة لا تقبل الشك مثل لوحته ( عيون في الظلام ) .
لقد ماتت ساسكيا منذ زمن بعيد قبل أربعة قرون تقريباً ولم يتبق لنا من زوجة ريمبرانت إلا تلك البورتريهات المذهلة التي رسمها لها زوجها العبقري . ليس مهماً إن كانت تشبهها أم لا ، لأن أحدا منا لم ير ساسكيا أو يلتقي بها كي يقارن حضورها الحقيقي مع اللوحات التي تمثلها ، لكننا نعرف أنها ساسكيا بكل تأكيد ونعرف أن ريمبرانت وثق حياتها معه وهي حامل أو تضع الزهور على شعرها أو وهي تعتمر قبعة حمراء من المخمل الثمين على رأسها . كيف نفسر ذلك إذن ؟ أليس في ما رسمه عبقري الباروك الهولندي هنا بعض السرد ؟ ألم يوصل لنا عبر لوحاته تفاصيل عن الحياة الهولندية آنذاك ؟ نعم هو فعل ذلك كما يفعل رسامو اليوم لكن بطرق مختلفة ، تناسب المتغيرات التي مرت على الفن بشكل عام والرسم بشكل خاص . بيكاسو وهو الأهم والأشهر في الفن الحديث لم يشذ عن هذه القاعدة ولهذا نرى في كل أعماله على الإطلاق تشخيصاً واضحاً أو بقايا لأشكال آفلة على قماشات الرسم . يكفي أن نقول إن أعظم لوحتين له هما أنسات آفنيون والجورنيكا رسمهما حول حدثين ومكانين حقيقيين وموجودين أثرا عليه بشكل واضح رغم الاختلاف الصاعق بين الموضوعين ( الأولى تمثل مومسات في فترينة ، والثانية تمثل قصف قرية جورنيكا ) ،ولكل لوحه من هاتين اللوحتين حكايتها التي سنعود إليها لاحقاً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

قناديل: بغدادُنا في القلب

عنوانان للدولة العميقة: "الإيجابية.. و"السلبية"

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram