TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تهافت المتجادلين وانحطاط اللّغة إزاء الكارثة

تهافت المتجادلين وانحطاط اللّغة إزاء الكارثة

نشر في: 4 يناير, 2014: 09:01 م

يذكرنا " توماس أوستلر"  في سفره القيم  "  إمبراطوريات الكلمة"   بحقيقة أساسية  لفهم علاقتنا باللغة باعتبارنا  بشرا فيقول : " إذا كانت اللغة هي التي تجعلنا  بشرا ، فإنها هي التي تجعلنا بشرا متفوقين "  وأضيف إلى مقولة  " أوستلر "  وتجعلنا بشرا  منحطين  أيضا. ما يلاحظ على مجتمعاتنا المتشنجة العاجزة الخوافة والمستلبة ، أنها لا تملك من أسلحة مواجهة الكوارث سوى  " اللغة الهابطة "  لغة السباب والتجريح والفضح ، لغة شتم شرف الأم والأخت والعشيرة والطائفة والعِرق  والقومية  وصولا إلى شتم العمل الذي يمارسه المرء  مهما كان راقيا  أو عفيفا  أو مضنيا.
 يورد " أوستلر"  حكاية عن  المؤرخ الأغريقي  "بلوتارخ"  الذي يروي قصة لقاء القائد الأغريقي " ثميستوكليس "  الطموح مع  الملك الفارسي " أكسيركسيس" أو كسرى  الذي واجه الملك الإسبارطي "ليونيداس " وقتله  ، إن  كسرى سمح  لثميستوكليس الإفصاح عما يدور بخلده بحرية تامة  في ما يخص القضايا  الإغريقية ، فأجابه  " ثميستوكليس":
- إن كلام الإنسان يشبه السجادات الفاخرة الغنية بنقوشها  التي لا تظهر أنماطها إلا عند فرشها وفتحها ، فعندما تطوى السجادات تختفي الأنماط فتضيع.
ثم طلب من كسرى أن يمنحه وقتا ، أعجب كسرى بهذا التشبيه البليغ ، فالسجادة الفاخرة رمز ثقافي فارسي مهم  وقال له ،لك من الوقت ما تشاء ، فطلب الرجل مهلة سنة واحدة ، وبعد انتهاء السنة أتقن " ثميستوكليس": اللغة الفارسية بشكل كاف  و تكلم مع الملك  بلغته فأجاد.
2
سجادة الأحداث العراقية العجيبة  عندما جرى فرشها  لمحاربة الإرهاب  كشفت   أولا عن ضروب من  الأداء  السياسي  المتناقض موسميا  مثلما كشفت عن  أنماط  الخطاب  الغرائبية  المتسمة  بالسفَه ِ والحماقة والتخوين  والديكتاتورية والتجريح العلني مدفوعة بنزعات  شوفينية وطائفية من الأطراف جميعها ، واستخدم الخطاب أسوأ الألفاظ  وأشدها  انحطاطا للنيل ممن يخالف  في الرأي  بين من يحسبون على فئة المثقفين  أو  مدعي الثقافة أو الفنانين على مواقع التواصل  الاجتماعي  والتعليقات في  بعض  المنشورات الإلكترونية وسواها.
انكشفت تماما طبيعة الأنماط الفكرية والنفسية والثقافية في المجتمع  الذي أنهكته  الحروب السابقة  والاحتلال  وتسلط الأحزاب الدينية على الساحة العراقية  شرقا وغربا وشمالا وجنوبا  وتبين أن نقوش السجادة  العراقية  التي  أوهمونا  بأنها  تضم  رسوما لزهرة الديموقراطية وعصافير الجنة  وأشجار النعمة وفرسان الخلاص ،تبين أنها سجادة أصابها  العث بمقتل  وأن الثقافة السائدة في مجتمعنا  المنكوب هي ثقافة محو كل مختلف وطرده من الفضاء العام  لأنه لا يوافق  نظرة فئة معينة لواقعنا  الملتبس، وأشبعت  الفضاءات الإلكترونية  هبابا ونتانة  وسخاما  وسبابا حتى  تلبدت السماوات  بالسواد وتعالت نبرة الطائفية من كل نافذة وباب و أوصدت سبل الحوار والتفاهم  في جو العصاب الشامل والهيستيريا والمعارك الكلامية التي تقودها  جماعات من المثقفين والصحفيين والفنانين.
لقد  ورث المشهد الثقافي أوراماً  خبيثة يصعب استئصالها بقرار أو  بحوار أو  بقانون ،  وتفجر قيحها الآن  ولوث  وجوه الجميع حين توارى مفهوم المواطنة  أمام ادعاء الوطنية,وتهاوى مفهوم  قبول المختلف أمام  عنجهية  الخطاب القائل  بأنه  مالك الحقيقة الوحيدة وانتحرت فكرة الشراكة الوطنية وتكسرت نصال  الصراع اللغوي البائس على نصال الإرهاب في ضلوعنا وخواصرنا  فأينما اتجهنا بأنظارنا حاصرتنا قذائف الموت  والسيارات المفخخة والخطاب الملغوم  والمواقف  الانفعالية  التي تلقي  بزيت  الخراب على  وجه العراق الحزين.
نعم إن اللغة  هي التي تجعلنا بشراً وهي  التي تكرسنا  بشراً متفوقين وعقلانيين مثلما تجعلنا   حمقى وعاطلين عن حكمة  الحوار.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. كامل

    كلمات رائعة مخطوطة بماء الذهب اديت وكفيت ايتها العراقية النبيلة

  2. سامي الساعدي

    مقال رائع،كروائعك...ظننا بحرية التعبير المزعومة خيراً بيد أن الحرية للتعبير الذي يحددون مقاساته هم!!...

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

قناديل: بغدادُنا في القلب

عنوانان للدولة العميقة: "الإيجابية.. و"السلبية"

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram