TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هل المثقف للبيع ؟

هل المثقف للبيع ؟

نشر في: 10 يناير, 2014: 09:01 م

العلاقة مُعقّدة بين الثقافة والشروط المحيطة بها، وهي أكثر تعقيداً من ثنائيات الأسود والأبيض، ومن المُرتجَى من الفعل الثقافيّ الصافي، ومن الآمال والأحلام العريضة. لا أحد يُناقش في ذلك إلا الرومانسيّ الذي تخطاه الزمن وجدل الواقع، لا شك تقريباً بذلك.
يحدث الالتباس فقط عندما يقع "توظيف" مُبتذَل للثقافة، واعتبار المثقفين شغيلة مدفوعي الأجر، يكتبون حسب الطلب، تحت شروط احتياجاتهم الإنسانية الأولية. وهذا يحدث في بلدانٍ تاريخُ الثقافة فيها يعاني من أزمات لم تُحلّ قطّ، مثل بلداننا العربية، التي وضعت الثقافة بشكل دائب تاريخياً في مرتبة التابع، الجليل أو الذليل، لكن التابع دائماً، كأن المارق والهامشيّ الثقافيّ في شرط كهذا يُعتبر استثناءً، بل استثناءً مُذهلاً وفريداً لا يُعتدّ به وطرفة، وليس له قوة المثال الاجتماعي الذي يُستهدى به.
في زمن رأس المال العربيّ، ثم الطفرات النفطية في القرن العشرين التي لم تشهد ثقافياً الصراعات والتحوّلات التي شهدتها الثقافات الأوروبية، مثالها العالي على الصعيد التقنيّ فحسب وليس المفهوميّ، فإن الثقافة تصير محض سلعة قابلة للشراء والبيع، بالترغيب والتهديد، ويصير المثقف شغيلاً لا يختلف البتة في أذهان أصحاب رؤوس الأموال عن أيّ شغيل باكستانيّ أو هنديّ، لكن برتوش محسَّنة.
في الصراعات السياسية والجيوسياسية الراهنة، ونتيجة لذلك، بعضهم يريد من جميع المثقفين العرب أن يكونوا تحت طلبه. وأن يتحدثوا ويفكّروا كما يحبّ، لأن التجربة أثبتتْ له أن رأس ماله قد يفعل الأعاجيب حتى حين لا يدفع لأحد، فلقد أثبتَ فعلاً، شكلياً، سطوة منطقه على نطاق واسع، رغم أن البعض لا يحبّذ صفاقة منطقه وهو يعتقد، مثلاً، بأنه كما يدفع لداعش والغبراء سيدفع لأيٍّ كان، أو يُرْهبه، أو يمنعه. هذا هو واقع الحال.
هل من الإفراط القول إن بلدانا أو فئات من شعوب منطقتنا التي لا تمتلك إلا بداوة الأسود والأبيض، يمكنها التفريط برماديّ الثقافات التاريخية العريقة؟. يبدو الأمر ممكناً، مع جرح يصيب القلب إذا كانت الفرضية صحيحة.
الأمر الواقع اليوم يقيناً، أن هناك من يعتقد أن المثقف العربيّ صالح للبيع، وأنه تحت الطلب. لقد وقع شراء ذمم لم نكن نعتقد للحظة واحدة أنها صالحة للمساومة. هناك، في اليوم هذا عينه للأسف، المئات من مثقفي العرب ممن يصمت ويتجاوز ويتجاهل قيمه الثقافية صعبة المساومة نظرياً لكن القابلة للتفاهم عملياً ضمن إجراء لفظي حاذق ومتحاذق لصالح خصومه الثقافيين.
في المشهد الملتبس الحالي، الذي يودّ مشترو الثقافة خلقه، ولكي لا يظهروا بمظهر السماسرة المحض في حقل لا يحتمل السمسرة الصريحة، لا يُحترم المثقف قط، ولا يتكلّف أحد بتبجيل مفهوم نقديّ جوهري للثقافة. أنْ تَطْبع كتباً وأنْ تمنح الجوائز في مسابقات ثقافية لا يعني بالضرورة أنك تحترم المثقف الجوهر ولا الثقافة النقدية لأنك ستستبعد، كما رأينا آلاف المرات، ما لا يناسب طموحك ومشاريعك من هذا كله.
سنكون واهمين لو اعتقدنا أن الصورة برمتها محض "نيكاتيف". ففي قلب متابعي بل مروّجي المثقف القابل للبيع والشراء، هناك من يؤمن بمساءلات وأحلام وطموحات ثقافة أخرى، عقلانيتها مغايرة لبراغماتيك رأس المال، ماله. كلنا نراهن على المغلوب على أمره في الشرط الحالي، فليس كل مغلوب على أمره بضعيف العقل ولا الإرادة في نهاية المطاف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. قارئه

    فليس كل مغلوب على أمره بضعيف العقل ولا الإرادة في نهاية المطاف. رائع جدا ، والأروع ألتشبث بها قناعة عصية على الإنحناء ، دمتم على قناعاتكم حبا بالعراق .

  2. عبود

    رغم المرارة لكن السؤال الاول والاهم هو هل من مثقف عربي يصلح بضاعة للبيع من مات رعبا من استبداد الحاكم النفطي لا يصلح ان يكون بضاعة للبيع لا ثقافة في بلدان تعتاش من بيع النفط

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram