لم يكن تكليف مهدي جمعة، القادم إلى عوالم السياسة من عالم الهندسة، بتشكيل الحكومة التونسية الخامسة، بعد إطاحة زين العابدين بن علي، ليتم لولا حال الاحتقان والغضب المسيطرة على الشعب التونسي، بمن فيهم الجماهير التي كانت محسوبة على حركة النهضة، التي اضطر علي العريض رئيس الوزراء القادم منها، قبيل مغادرته قصر الحكم، إلى تعليق قرار رفع الضرائب، المُعترض عليه من معظم الأحزاب والقوى الوطنية، ما أجبر هذه الحركة الأصولية، التي هيمنت على المناخ السياسي في تونس لثلاث سنوات، على الوقوف إلى جانب الاحتجاجات الشعبية، ومطالبة الحكومة بسحب قانون المالية الجديد، والرضوخ للمطالبات الشعبية، بتشكيل حكومة كفاءات من المستقلين، للخروج بالبلاد من طريق، كان يقود حتماً إلى السقوط في العنف والفوضى والإفلاس.
مهمة مهدي، المعروف بتعاطفه مع الإسلاميين دون الانخراط في تنظيماتهم الحزبية، والقادم من بيت غير بعيد عن النشاط السياسي، منذ أيام الحبيب بورقيبة، ليست سهلة، فهو يواجه تحت الضغط الشعبي عدة تحديات، أبرزها الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، كتوفير أجواء ملائمة للانتخابات، وحل ميليشيات حماية الثورة مع مقاومة الإرهاب، والضغط على الأسعار، والسرعة في إنجاز ميزانية تُراعي الفئات الوسطى والفقيرة، مع التأكيد على استقلاله عن حركة النهضة، لكن من المهم ملاحظة أنه يحوز على الكثير من مقومات النجاح، رغم صعوبات المرحلة الراهنة، فهو حاز فوراً على دعم أميركي وأوروبي وجزائري غير مسبوق، أضافه إلى رصيده من دعم رجال الأعمال والنقابات والأحزاب السياسية، بمن فيهم من تحفظ عليه في بداية ترشيحه.
الشارع التونسي الذي كان يغلي ويُنذر بانفجار هائل، تبدو عليه علامات الارتياح، وهو ينتظر حكومة جديدة خلال أسبوعين، تخرج به من حالة الاحتقان ضد الإسلاميين، الذين أساؤوا إدارة البلاد خلال عامين من الحكم، لكنهم تعلموا الكثير من الدرس المصري، رغم نأي الجيش التونسي بنفسه عن النشاط السياسي، وإذا كانت قوى المعارضة الليبرالية والعلمانية واليسارية، تسعى لتغيير القانون الخاص بسحب الثقة من أية حكومة، ليكون بثلثي أعضاء المجلس النيابي، حتى تنجو الحكومة من ضغوط حركة النهضة، التي تمتلك أكثرية النصف زائد واحد، فإن قادم الأيام سيشهد حالات من التجاذب والخلاف بين النهضة وخصومها، تحت قبة المجلس الوطني التأسيسي.
كانت تونس مهد ما سُمي بالربيع العربي، وأسقط حرق البوعزيزي لنفسه احتجاجاً أكثر من نظام، ولم تختلف نتائج الثورات عن بعضها بعد سقوط تلك الأنظمة، حيث قفز الإسلاميون إلى مواقع السلطة بانتهازية تفوق كل تصور، لكنهم أثبتوا فشلهم وعجزهم عن تلبية مطالب الجماهير، بركونهم إلى شعارات تأكد خلوها من أي مضمون، وعملوا على تهميش وإقصاء أي قوى لاتنضوي تحت ألويتهم المقدسة، فكانت الثورة المضادة لحكم المرشد في مصر، وحظيت بتأييد الجيش الذي لم يكن بعيداً عن السياسة، ونجت مصر، بينما لازال التخبط سائداً في ليبيا، وكان أن أخذت جماهير تونس الريادة ثانية، بإقصاء حركة النهضة الإخوانية المنشأ والميول، عن موقع المسؤولية الأول، في تأكيد على قدرة تلك الجماهير على التغيير، بدون الاعتماد على القوة العسكرية.
حين تتقدم الجماهير، وهي تمتلك إرادتها ووعيها، لايكون أمام التنظيمات الأصولية الإقصائية، غير الانكفاء والتراجع، بانتظار فرصة لن تأتي أبداً.
تونس وتراجع النهضة
[post-views]
نشر في: 11 يناير, 2014: 09:01 م