تعاملت السينما العالمية مع القضايا الأفريقية من الخارج ولم تتمكن من مس جوهر القضايا الأساسية والسياسية على وجه التحديد بالرغم من تنوع وتشعب تلك القضايا بما تكتنزه من موروث وتقاليد وجذور حضارية متشابكة مع جميع الحضارات الإنسانية ،فالمخرجون خارج
تعاملت السينما العالمية مع القضايا الأفريقية من الخارج ولم تتمكن من مس جوهر القضايا الأساسية والسياسية على وجه التحديد بالرغم من تنوع وتشعب تلك القضايا بما تكتنزه من موروث وتقاليد وجذور حضارية متشابكة مع جميع الحضارات الإنسانية ،فالمخرجون خارج هذه القارة لم يكونوا دقيقين في المقاربة بين الواقع الأفريقي والسرد السينمائي ، والفن الأفريقي يملك الإمكانية للتعبير عن نفسه والتعبير عن كيانه وتقاليده بشكل جيد إلا أن السينما كصناعة تصبح مهمة صعبة أمام الأفارقة بسبب الإمكانات المالية والخبرة الفنية والتكنولوجية
وجرت محاولات وطنية كثيرة في إنتاج سينما أفريقية إلا أنها لم تزل تحبو برغم نيلها جوائز مهمة في المهرجانات الدولية ،ومن الطبيعي أن يكون هناك تفاوت بين بلد وآخر ،فإنتاج مصر ودول شمال أفريقيا تونس والجزائر والمغرب وكذلك السنغال كان مميزا إلا أن المقارنة بين السينما الأفريقية والسينما الهندية والتركية والإيرانية لا تجعل الكفة تميل لصالح السينما الأفريقية على الرغم من ثقل السينما المصرية فيها ،ومن الأفلام المميزة التي تناولت الواقع الأفريقي كان الفيلم الكندي " ساحرة الحرب " سيناريو وإخراج " كيم نجوين "، والفيلم صور في جمهورية الكونغو الشعبية ،إلا انه لم يشر في قصته في أي بلد تجري الأحداث ويشير إلى مشكلة خطيرة في أفريقيا وهو تجنيد الأطفال في القتال كأنه يعتبر القضية تشمل أفريقيا برمتها ،والتركيز على هذا الموضوع دفع بالفيلم إلى أن يكون من أصدق الأفلام الأجنبية التي عالجت الواقع الأفريقي ،والفيلم لم يتشعب أو يسيس موضوعه أو يناقش فكرة القتال بين الحكومة والمتمردين كما لم يبالغ في مشاهد القتال بقدر تركيزه على حياة البطلة الصغيرة ليمنح الفيلم طابعا إنسانيا محضا، و مخرج الفيلم يسلط الضوء على مأساة أطفال يخطفون ويجبرون على حمل أسلحة تتجاوز أطوال قاماتهم ويشتركون في حروب لا يفهمون سببا لها .وقد جازف المخرج باختياره بطلة الفيلم " ريتشيل موانزا " من أطفال الشوارع ليس لها تجربة في التمثيل إلا أنها كانت مقنعة إلى حد كبير.
سيناريو الفيلم
لقطة عامة لبيوت من صفيح وكرتون وأغصان وأشجار و أطفال بملابس رثة وأمهات نحيفات ، ثم لقطات سريعة لوجوه وأقدام وأيدٍ تدل على البؤس ،تلك هي صورة واقعية لقرية أفريقية تحيط بها طبيعة جميلة ،صورة معبرة لتناقض صارخ بين الجمال والبؤس ،فجأة تصاب طفلة بالذهول وهي تنظر باتجاه النهر، يهاجم متمردون يطلق عليهم جماعة النمر الكبير القرية يقتلون الكبار ويأسرون الصغار في مشاهد قاسية وكأننا في عصر ما قبل التاريخ، ( كومونا ) فتاة بعمر 10 سنوات يجبرونها على قتل والديها بالبندقية بدلا من قتلهما بساطور ،تنفذ الأمر بتوسل من والدها وهي مرتعبة ،يأخذونها إلى معسكر تدريب لتتعلم القتال وتلتحق بالمتمردين ،تتعرف على فتى يدلها لتشرب سائلا أبيض من شجرة يسمونه ( حليب الأشجار) يبعث في جسدها خيالات غريبة ،تحس بأنها ترى جنود الحكومة المختبئين ويدفعها لتقاتل بلا وعي بضراوة دون خوف وتعود سالمة ،تثير اهتمام من حولها يعتقدونها ساحرة ويصل الخبر إلى القائد الكبير الممثل" ألاين لينو ميك" فيلقبها بساحرة الحرب ويقربها منه لتحميه ،لكنها تهرب مع الفتى "ماجيسيان" الذي تعرفت عليه وتوطدت علاقتهما ويقرران الزواج لكنها تشترط عليه الحصول على الديك الأبيض كمهر لها كما كانت تسمع من والديها ،وبعد بحث طويل يحصل عليه ويتزوجان في بيت عائلة طيبة يعمل جزارا ،لكن النمر الكبير يعثر عليهما ويكرر فكرة أن تقتل زوجها بالبندقية لكنها تصطف معه ليقتلهما معا ،يسحبها ويقتل زوجها بالساطور ويعيدها إلى جيش المتمردين حيث يجعلها خليلته تشعر بوجود جنين تلجأ إلى طريقة غريبة تقتل فيها القائد وتهرب وهي تنزف فينقذها احد رجال شرطة الحكومة ويعيدها إلى الجزار فتعتني بها الزوجة لكن خيالات والديها تلاحقها ويطالبان بدفنهما .بعد مرور حوالي أربع سنوات على مقتلهما تصاب بالهلوسة بعد أن كبر حملها وتهرب باتجاه القرية مع ثقل حملها ويضربها الطلق لتضع طفلتها لكنها تلملم الآمها لتصل إلى القرية حيث لا تجد أثرا للجثث إلا قميص الأب فتدفنه وهي تردد ترنيمة الدفن وحال الانتهاء تلمح شبحي والديها وهما يغادران راضيين ، تعود حاملة طفلها سيرا على الأقدام تتوقف شاحنة في الطريق تحمل عددا من العوائل يسألها السائق إلى أين ؟تجيبه بأنها تمضي إلى عمها الجزار.. يدعوها السائق لتنضم إليهم.. تقول له إنها لا تملك مالا ،فيرد عليها :بأن لا احد منا يملك المال ..تنضم إليهم ولكنها تغفو في الشاحنة إغفاءة طويلة ،وتحتضن الطفلة امرأة كبيرة في السن ويمضون في طريق يبدو طويلا .
بطلة من الشارع
كيم نجوين المخرج وكاتب السيناريو تمكن من تصوير جانب قد يكون صغيرا من الواقع الأفريقي بأسلوب سلس نجح إلى حد ما في الولوج إلى تفاصيل داخلية في الجانب القاسي من الواقع الأفريقي في ظل الفقر والخوف والظلم والجهل والضياع ،ولم يأت ذلك إلا من خلال معايشة واقعية للمكان .ويوضح نغوين قائلا :عندما زرت دولة بوروندي شاهدت الناس هناك يعانون كثيرا للحصول على لقمة العيش ويتقاتلون ويعيشون تحت رحمة العنف. ورغم ذلك يسعون إلى الحب، إلى تكوين أسرة، إلى الاستقرار، إلى الإيمان والاستمرار في الحياة حتى وإن كانوا يعيشون في دولة تعمها الفوضى أو تمزقها الحرب . وبالرغم من أن القدرة الإنتاجية للفيلم لم تكن مكلفة ،إلا أن الفيلم كان كافيا ليشير إلى حقائق مؤلمة ،كما استفاد من طبيعة الحياة وبساطتها والتقاليد الأفريقية ولو بتفصيلات صغيرة مثل موضوع الديك الأبيض ،وفكرة السحر ،ولم يركز على تفاصيل المعارك ليصنع تشويقا بل اعتمد على فترة التدريب وسذاجته عند المتمردين ،كما صنع في مشاهد رائعة بسيطة فكرة الحب التي نشأت بطريقة طبيعية بين كومونا والفتى الذي تزوجته ،أما مشهد قتل القائد بطريقة كومونا فكان مثيرا إلى حد كبير ، وقد نهضت بدور البطلة ريتشيل موانزا الفتاة التي لم تجرب التمثيل مطلقا حيث حصلت على جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين 62 باستحقاق ،وقد عبّرت عن سعادتها وقالت إنها تريد أن تستغل الشهرة التي أكسبها إياها دورها في الفيلم لمساعدة مشردي الحروب من أطفال الكونغو. وأردفت إن فكرتي أن أساعد أطفال الشوارع الذين يعانون، كما أن عددا من مواطني بلادي يعانون وأعرف الكثير منهم".الفيلم علامة بارزة في السينما العالمية التي تهتم بقضايا الشعوب حيث يضع تلك الحقائق القاسية أمام المجتمع الدولي لوضع نهاية لتلك المآسي.