أولاً: لا جدال ولا شك في القصدية الإجرامية للقاعدة وسواها من المنظمات المسلحة التكفيرية، ومسؤوليتها المباشرة في إثارة كوامن النزعة الطائفية، وتحريضها على الفتنة وتوسيع دائرتها، بما ارتكبته منذ سقوط الدكتاتورية السابقة حتى اليوم. وليس موضع نقاشٍ او ت
ولم يكن لهذه المنابع العقائدية، واسترجاعاتها التاريخية ومنابرها وفتاواها ان تنطوي على هذا القدر من التأثير والتعبئة، لولا تحولها إلى اطار سياسي وقاعدة للصراع على السلطة، منذ النهاية المعروفة للخلافة الراشدة، باعتماد التحكيم على الخلافة، واستيلاء العائلة الاموية على الدولة الاسلامية وتكريس توريث الحكم، بخلاف ما جرى في الحقبة الاولى للاسلام، وتدشين مرحلة "الإسلام السياسي" كتيار نافذ يتجاوز العقيدة الإسلامية ومبادئها.
وظل الصراع يتفاقم، مذاّك، ويحيط نفسه بكم من التلفيق والتجني والخروج على الاسلام الاول، ويتحول الى عوامل هدمٍ، وتشويه للإسلام المحمدي، وتفكيك لأركانه وفرائضه، بما أضفاه كل طرف عليه، ومن اسقاطاته التي توارثتها الاجيال والامم الاسلامية في مختلف اصقاع العالم، بعد حملات الفتوح والتوسع.
ونظرة موضوعية إلى الانقطاع في سير العصور الاسلامية، الاموية والعباسية والفاطمية والعثمانية، وما بينها من عهود وفرقٍ، وحروب وقتال وتكفير متبادل وتقاذف باختلاق الاحاديث والاشعار والمدونات، واعتمادها في التسقيط السياسي، تكفي لتلقي اضواء ساطعة على ما آلت اليه اوضاع المسلمين وفرقهم ومذاهبهم وطوائفهم ودولهم من مصائر، هي والإسلام الأول وما جاء به كتابه المجيد، على طرفي نقيض.
وليس صحيحاً ان التطرف الذي نشهده اليوم وافد جديد على الإسلام، وان هويته غريبة عليه، لان كل التاريخ السياسي للاسلام، بعد انحراف مساراته عقب حقبة الخلافة الراشدة، يعكس انبثاق التطرف من رحم التيارات والفرق التي تصارعت على السلطة، بعد ان صار الاسلام دولة مترامية الاطراف، تدر ذهباً وحريماً وخيرات وجاهاً وامتيازات ومباذل، تصب في خزائن الملوك الذين تسمّوا باسم الخلفاء، وجلهم كان يغرق كل يوم في المفاسد والملاهي التي حطّت عليهم من كل ثقافات وتقاليد الامم المفتوحة المنخرطة في دولة الاسلام. حتى ان بعض الخلفاء اصبح نموذجاً للتهتك الاجتماعي والسياسي والاخلاقي، ومنهم من تطاول في دواوينه على القرآن، وأمَّ الصلاة وهو يتلوى من السكر، او يُنيب عنه في الامامة جاريته!
وقد سقط في الصراع بين الفرق والمذاهب "السياسية" آلاف من علماء الدين ورجالات الفكر والثقافة، لاجتهاد مخالف، في اطار الاسلام وليس خروجاً عليه. واستخدمت في التصفيات "السياسية"، التي مارستها اقوام "الاسلام السياسي" ابشع اشكال وصيغ التعذيب والقتل والابادة، وكل ما توفر يومذاك من اساليب الفساد الاخلاقي والمالي لتبرير تكريس السلطة الجائرة، وترويع المخالفين، وقطع رقابهم ودفنهم احياء في الجدران، وتقطيع اوصالهم، والاستيلاء على المال العام وهتك الحرمات.
ونحن نعيش اليوم في الديار العربية الاسلامية، فصلاً جديداً من مراحل تسيّد تيار الاسلام السياسي، بتصنيفاته السنيّة والشيعيّة، وفي أُطرها، تتحرك المجاميع التكفيرية والميليشيات المنفلتة، وهي تستمد ثقافتها وأساليب نشاطها الاجرامي، من تراث تلك المراحل المظلمة من التاريخ، والصراع على السلطة والخلافة.
ان أس التطرف ليس دينياً، وإنما هو تحوير وتدوير للدين بدواعي الوصول الى السلطة والحفاظ عليها. ومن يتتبع اشباح المنخرطين في القاعدة وداعش والتنظيمات التكفيرية الاخرى وكوادر الميليشيات الاسلاموية الطائفية، يجد ان جُلهم من المجرّدين عن علوم الدين والقرآن والثقافة الاسلامية، والمخدرين، بثقافة الاقصاء والتكفير، حتى ان التكفيري الذي حاول اغتيال الروائي الراحل نجيب محفوظ حين سؤل عما اذا كان قد قرأ رواية "اولاد حارتنا" التي بسببها طعن بسكينه الغادر الكاتب الكبير، اجاب بكل بساطة ..انا لا اقرأ وإنما انفذ امراً..!
يتبع...