في مجرى الصراع التاريخي بين الفرق الإسلامية على سلطة الخلافة في عهودها المختلفة، اتخذ الإسلام السياسي "المضاد" (إن صحت تسميته تحت هذا المصطلح فالتسمية تبدو حديثة)، طابع التمرد والثورة والخروج على طاعة "ولي الأمر"،فأماط اللثام عن المضامين الحقيقية للس
في مجرى الصراع التاريخي بين الفرق الإسلامية على سلطة الخلافة في عهودها المختلفة، اتخذ الإسلام السياسي "المضاد" (إن صحت تسميته تحت هذا المصطلح فالتسمية تبدو حديثة)، طابع التمرد والثورة والخروج على طاعة "ولي الأمر"،فأماط اللثام عن المضامين الحقيقية للسلطة السياسية التي تستخدم الدين ومذاهبه وتجعل منها أداة تطويع للمسلمين وتجريد لإرادتهم، ووضعهم في مواجهة الحركات والدعوات التي تكرس القيم الحقيقية للدين وما تنطوي عليه من مبادئ ونزعات،تتعارض وتتقاطع مع المظاهر والسياسات والفرمانات والفتاوى التي يختلقها وعاظ السلاطين لاظهار الحكام بصورة الاولياء الاتقياء المدافعين عن حياض الاسلام ومصالح المسلمين.
وقد شهدت كل العصور الاسلامية، من الدولة الاموية حتى انهيار الامبراطورية العثمانية، تمردات وثورات وحركات خارجة على طاعة السلطة وداعية الى الاطاحة بها، ومنددة بتوظيف الدين وابتكار الفرق المذهبية ومدارسها وتعليماتها من قبل اشباه رجال الدين والفقهاء ووعاظ السلاطين لتكريس ولاية الخلفاء وورثتهم.
وفي سياق هذا النزوع، استطاع الخلفاء والسلاطين واتباعهم، مستعينين بقوة السلطة واموالها، تعميق الشقاق بين المسلمين وانتاج المزيد من الفرق والمذاهب والانشقاقات، كلما تطلب ذلك ترميم اركان دولة المستبد تحت عباءة الدين وفرقه. ويكفي تتبع العصور الاسلامية، وما ظهر فيها من دولٍ متلاحقة بتسمياتها المنزوعة عن اصولها، حتى يظهر بوضوح،بعد المدى بين الدعوة الاسلامية المحمدية والحقبةالراشدية واصول القرآن والحديث الصحيح، وبين الدولة الاموية ثم الدولة العباسية فالدولة العثمانية وما تتالى بعد ذلك من انقضاضاتٍ وتصدعات في اركان الدولة الاسلامية، وتشرذمها وتفككها، حيثما كانت لها ولاية وخلافة.
وفي كل تلك العهود، التي أعقبت الخلافة الراشدية،باستثناء عهد عمر بن عبد العزيز كنموذج للإمام العادل حتى عُرف بخامس الخلفاء الراشدين،اخضعت "الاحزاب" والحركات السياسية التي انبثقت ثم تعددت وتوسعت مع تقادم الزمن، الدين الحنيف لاهدافها السياسية، بالاستيلاء على السلطة، وكيّفته وفقاً لمصالحها ونزواتها، مستعينة بعلماء ورجال دين وفقهاء مستعدين لاستحداث فرق واجتهادات تناسب الحاكم وتنتصر لسلطته.
ومن ابلغ الإشارات على المظاهر الأولية لفصل الدين عن الدولة، المسافة التي وضعها ائمة المذاهب الكبار بينهم وبين السلطة القائمة في مختلف عصورها،ورفضهم قبول مراكز افتاء قضائي، او "رشا"بصيغة منح او هبات، وتفرغهم لشؤون التفكر الفقهي والاجتهادي. بل ان بعض هؤلاء الكبار انحاز، دون اعلان، الى الحركات الثورية ضد الخلافة، ومد الثورة بالمال، وحبذ المشاركة فيها، فقيل دفع الامام ابوحنيفة حياته وهو ينتصر لثورة ضد العباسيين قادها أخو محمد النفس الزكية، إبراهيم في البصرة، وتعرض الامام ابن حنبل للتحقيق والتنكيل لأنه لم يقر ما أراده الخليفة المأمون بما عُرف بمحنة خلق القرآن، ولتمسكه باجتهاده المضاد لما يريده الخليفة واعوانه من الوعاظ ومختلقي الاجتهاد السلطوي. وجرى التنكيل بالإمام مالك بن أنس لأن له رأي مخالف في اسداء ولاية العهد للمهدي بن المنصور، وكذلك تعرض الشافعي للتحقيق وقد جُلب إلى بغداد، في عهد الرشيد باتهمامه أن له صلة بثورة من الثورات، وآخرون ساروا على الطريق نفسه.
أما سيرة الائمة الاثني عشر فمعروفة تاريخياً في الموقف من السلطة، ورفضهم ممالأة الأنظمة الخلافية التي تولت الحكم، وموقفهم من العصبيات التي سادت في أجوائها منذ الدولة الأموية، وما تعرضوا له من محن ومصائر. وقد لا يلائم ولاة الاسلام السياسي المعاصر، كشف القصدية المريبة لتوظيف التباين في الاجتهادات والتفقه بين ائمة المذاهب الرئيسية، في تعميق الخلاف الاسلامي -الاسلامي، وتحويله الى اداة تناحر وتنابز، مع انها جاءت كمحاولة في الاغناء والتفصيل، ما كان اشكالية، ومثار تساؤل وجدل في المجتمعات الاسلامية وبيئاتها المتنوعة التي تتطلب حلولاً فقهية،لا تتلاءم مع ما يأتيها من مراكز الاجتهاد الإسلامي في الأصقاع الأخرى.
لقد تكرس الانفصال بين الدولة والامامة، في الظروف الموضوعية والبيئة الاجتماعية والدينية لتلك الحقب،منذ تلفع الصراع على السلطة بعباءة دينية ومذهبية،وأيقظت العصبيات القبلية والعشائرية الكامنة،وتجسدت بوضوح في المواجهة الصريحة او الضمنية بين مراكز الاجتهاد الاسلامي وائمتها الكبار. وكان الاوضح في هذا النزوع، تفرغ الائمة الاثني عشرية لدواعي الدين والدعوة الإسلامية، واستنكافهم عن الاقتراب من مراكز السلطة ودوائرها. ومن تصدى للثورة والتمرد على الخلفاء في العهود المختلفة، من آل البيت، كانوا خارج تلك الدائرة، واتخذوا لأنفسهم إطاراً سياسياً وحركات مسلحة ضد المنظومة السياسية القائمة وانخرطوا في العمل السياسي الثوري، كوسيلة لتحقيق دعاواهم وأهدافهم.
ان التاريخ الإسلامي عبر مختلف عصوره كان تاريخ صراع سياسي على السلطة. وليس منازلات"جهادية" للدفاع عن حياض الدين الاسلامي،واعلاء كلمته وتكريس عقيدته. واذا تجاوزنا الجدل حول الفتوحات الإسلامية وإشكالياتها، فإن الحروب والقتال والصراع بكل اشكالها التي دارت للاطاحة بالممالك والامبراطوريات الاسلامية، جرت كلها تحت راية الإسلام، وفي بلاد المسلمين وبجيوش المسلمين. ولم يكن القتال "الجهاد" يستهدف تطويع فرقة متمردة "مرتدة" على الإسلام والمسلمين، بل كان،دون ادنى شبهة، بين "أحزاب سياسية" تنشد الوصول الى السلطة، تارة تحمل راية الأمويين واخرى العباسيين او العلويين او الفاطميين اوالعثمانيين، والى آخر حروب فرق وشيع الاسلام السياسي، التي انتهت الى تمزق دولة الاسلام الى دويلات منهكة متخلفة تحيط بها الجهالة والفاقة والغياب عن الوعي.
وحين انبثقت تجليات ثورية لدى علماء الدين اوائل القرن العشرين، ترافقت مع اليقظة السياسية القومية "الوطنية" عشية انهيار الإمبراطوريةالعثمانية، فانطلقت حركة المشروطة وتسللها الى معاقل المرجعيات الدينية، لتصبح بعض المرجعيات العليا في النجف حاملاً للهم السياسي، من أجل حياة دستورية، لا من أجل سلطة رجل الدين، وبقوة دفعٍت لتفكيك النظام الملكي المستبد آنذاك في ايران،والتعبئة في اتجاه فرض دستور يضمن الحرية السياسة إلى حد ما، وهو ما انتج في ذات الوقت داخل المراجع العليا، دعاة "المستبدة"، ما اضفى على التدخل الديني، في ظروف تلك المرحلة، عاملاً في غاية الاهمية، يتمثل في تكريس دولة ملكية دستورية مدنية، دون ان يستهدف تعزيز او تعظيم دولة دينية.
وفي الضفة الاخرى، انبثقت نواتات الاخوان المسلمين، في عشرينات القرن الماضي، لتؤسس لحركة دعوية هدفها استنهاض المسلمين والدفاع عن حياض الاسلام في مجتمع اسلامي، لا مظاهر للردة فيه! لكن بحساب سلطة الإسلام السياسي،بما عرف من جماعة الإخوان المسلمين.
يتبع...
جميع التعليقات 1
ياسين الحديدى
تحية وتقدير الي جناب الاستاذ فخري كريم ناطاتك ودعمك المتواصل للمثقف والمثقفين لا يحتاج الى دليل فهو واضح وبين للقاصى والدانى والمحب والحاقد طلب بسيط لدي كتاب استنساخ عن الوية كركوك صادر فى الاربعنيات عن الوية العراق والكتاب هو عن لواء ك