خلّفت الدولة العثمانية، وهي تتآكل ثم تنهار، في اوائل القرن العشرين، "جينتها" الطائفية، لتجد الرعاية من ورثتها الآتين من الغرب الاوربي، فيعيدون تقاسم الميراث بتمزيق خارطة المنطقة واعادة رسم حدودها وتضاريسها القومية والأثنية والمذهبية، لتصبح الكيانات ا
وقبل ذلك، كانت الدولة الصفوية قد استنفرت ما امكنها من قوى دينية، طائفية، للتعبئة في مواجهة الاستقطاب المذهبي الذي اعتمدته الخلافة العثمانية في ادارة ولاياتها على امتداد نفوذها وهيمنتها. وقد نمت النزعتان المتناقضتان، باسترجاعاتهما التاريخية المتضخمة، بفعل المصالح السياسية للخلفاء من كل رجع بعيد، لتتخذ لها منصاتٍ سياسية تستند الى سلطة القهر والاستبداد، في الدول الناشئة على انقاض دولة الخلافة العثمانية.
لم تجد الامم والشعوب التواقة الى الحرية والانعتاق واكتشاف ذواتها المأسورة في الكيانات الجديدة، ما كان مطمح نضالاتها في ظل الحكم العثماني، ومبعث آمالها المشدودة الى وعود "الحلفاء" الذين استورثوا، وفقاً لمعاهداتٍ دولية، اسلاب العثمانيين. وتبددت احلام الحركات القومية ومُراد الوطنيين ودعاة الاصلاح والترقي، بكل تلاوينها، لتعثر على مصائرها في أطر دول وكيانات مبنية على شظايا متناثرة تؤسس للفِرقة والانقسام، وتتكرس على قواعد ومفاهيم الاستبداد.
لقد امكن طوال عقود الهيمنة الامبريالية، خلق مسارات مشتركة بين اغلبية دول المنطقة، وبضمنها الدولة الشاهنشاهية، تتأطر بالولاء الذي يجمعها بمصالح الدول العظمى المتسّيدة، ووضعها على اساس تلك المصالح في تناقض وصراعٍ مع شعوبها. وتمكنت الحركات والقوى الوطنية على اختلافها، سياسياً وعقائدياً، من استقطاب المجتمعات وما فيها من حراك وتململٍ نضالي، ووضعها في مواجهة استحقاق الاستقلال والتحرر الوطني، واستعادة ارادتها الحرة وطريق تطورها المستقل. وهي بذلك تجاوزت كل الاختلافات العرقية والمذهبية، واحتوت الهويات الفرعية في هذا النضال على امل ان تتبلور حقوقها وتشوفاتها في ظل انظمة وطنية ديمقراطية مستقلة!
وفي تطور خارج المسارات والاماني، تمخضت انظمة التحرر الوطني عن مرحلة مترعة بالضياع السياسي، محفوفةٍ بانفصامٍ حادٍ عن البرامج والامال والاهداف التي رسمتها الحركات الكبرى، لترسو على صيغٍ واشكالٍ من الاستقطاب في القوى، وضعت الشعوب في البلدان العربية امام مصائر مفتوحة على مرارة خيبات تعيد انتاج نفسها عبر اكثر من خمسة عقود، من توارث الانظمة الدكتاتورية "الوطنية" المستبدة، وتستفحل كلما ظهرت بوادر املٍ ممضٍّ مشوب بالقلق والحيرة.
وفي خضم الصراعات داخل دوائر "الدول الوطنية" المستبدة، وعلى تخومها التي أصبحت ملاذات فقرٍ وإدقاعٍ وجهلٍ ومعازل "قومية، ودينية، ومذهبية"، فاضت اشكال لم تعرفها المجتمعات العربية، من العنف والكراهية، انتجتها وسوّغتها الانظمة السائدة التي وجدت في التمييز الطائفي والمذهبي والديني، ادوات فعالة في تحييد سلطتها وادامتها، والتمويه من خلال ذلك على الصراع المبني على تحقيق المصالح والحاجات المجتمعية المتنامية، المغيبة بالاكراه والاقصاء والقهر. ومع تدفق الثروة والانفجارات الاقتصادية في دول النفط والغاز، ازداد التفاوت في التطور الاقتصادي والاجتماعي في العالم العربي، وبين دوله، لينعكس في تفاوت اعمق على صعيد مستويات مجتمعاتها، ولتتسع معدلات الفقر والقوى المهمشة والطفيلية الى مستويات تضعها في صدارة دول العالم الفقيرة المحرومة من الثروات الطبيعية ومصادر الغنى.
ودفع ثنائي القمع الاستبدادي، وفشل مشاريع الحداثة التي اطلقتها الحركات السياسية الكبرى، الاشتراكية وحاملة هم العدالة الاجتماعية بشكل خاص، الى يأس مجتمعي، لم يكن امامه من بديل غير البحث عن خلاص في حياة اخرى، رسمت مدنها الفاضلة الاحزاب الدينية من الطائفتين.
وعلى تخوم الفضلات التي خلفتها "العثمانية" وتعهدتها يومذاك بريطانيا العظمى وفرنسا وايطاليا، تظل الدول والشعوب العربية، تتقلب على سعير النيران التي ابقت على جمراتها متوقدة، تنفثها تشظيات الهويات الفرعية، واللوثة الطائفية التي كانت اساس سياسة رسمتها تلك الدول في اطار ما عرف شعبياً بسياسة "فرق تسد"، وقد فعلت تلك السياسة كل ما كان مطلوباً منها حتى يومنا.
لكن تلك السياسة، اصبحت اليوم اداة حفر قبور الانظمة والدول التي تواصل نهجاً يعتمد اذكاء الفتنة، بكل عناصرها، وتستهدف تدمير واقصاء وتصفية الهويات الفرعية التي دخلت في نسيج مجتمعاتها، واخطرها تتمثل في العزل الطائفي، وكبت مكونها وحراكها.
صحيح ان المحيط العربي والاقليمي، بهويته المذهبية الطاغية، يتعايش مؤقتاً مع قاعدته الاجتماعية، القلقة والموسوسة من تحدياتٍ افتراضية منسوبة للآخر المختلف مكونياً، لكن الأصح ان هذا القلق لن يستمر ويطغى على تناقضات تمس جوهر التطور والتقدم الذي تتفتح آفاقه وتشكل عنصراً ضاغطاً، كلما اتسع التفاوت مع سير الحضارة الإنسانية وتعمق قيمها الحقوقية التي ترفض التمييز والحجر والعزل بكل تلاوينها وأساليبها، وتلفظ اي نظام مبني من حيث الجوهر على مصادرة الارادة والحريات. كما لن يستطيع القلق من الآخر المختلف ان يطمر التفاوت الحاد بين الثروة والسلطة، والأقلية التي تهيمن على الثروة وتستبد بالسلطة، لان هذا هو جوهر الصراع في كل مجتمع، منذ اكتشف الإنسان ذاته، وتبينت له المسافة التي تفصله عن حقه بالحياة.
وصحيح أيضاً، ان الجذور المذهبية للمكون الاخر في المحيط العربي والاقليمي، تعجز عن الاعتماد على "مدٍ تبشيري" يقَلّب موازين القوى، ويفتت فاعلية الاكثرية بوسائل التحريض والتبشير الطائفي..!
لكن قوة اي طرفٍ، وقدرته على تغيير موازين القوى، تكمن في المراهنة على بديل سياسي مبني على الحرية والمواطنة المتساوية، في مواجهة كل نظامٍ، بغض النظر عن هويته ومجساته الطائفية، يستمد القوة والاستمرارية من قيم ومفاهيم وقهر آليات الاقصاء والاستبداد.
(يتبع..)
جميع التعليقات 1
محمود هادي الجواري
الحقيقة الطائفية فرضت نفسها كناتج لديناميكية التحول من نظام شمولي له من الانصار والمؤيدين وان كان كما يدعي البعض ان الانضمام للحزب كان لاسباب العيش .. اذن ما لم يعتاده العراقيون في تغيير نظام الحكم الا عن طريق ثورة ولها قياديها واسماء منفذيها .زولكن ما حد