تراجعت أماني الشعوب العربية في تحقيق آمالٍ مؤجلة، ترتقي بمكانتها إلى مستوى ما بلغته الحضارة الإنسانية، وما تظفر به الأمم والشعوب من تطور ورقي وأسباب عيش رغيد. ورغم نعمة ثرواتها الطبيعية التي تفتقر اليها شعوب وأممٌ تشكل بنية الحضارة البشرية، وتؤشر الى
تراجعت أماني الشعوب العربية في تحقيق آمالٍ مؤجلة، ترتقي بمكانتها إلى مستوى ما بلغته الحضارة الإنسانية، وما تظفر به الأمم والشعوب من تطور ورقي وأسباب عيش رغيد. ورغم نعمة ثرواتها الطبيعية التي تفتقر اليها شعوب وأممٌ تشكل بنية الحضارة البشرية، وتؤشر الى نمو دورها كقاعدة للأمل والمستقبل، فأن هذه النعمة وخيراتها أصبحت مصدر دورات من التدمير وتبديد الثـروات الطبيعية والبشرية، ومنطلقاً لوضع دولها العربية الإسلامية في مواجهة عنف وتطرفٍ يستمد جذوره من أصول الدين واختلافات مذاهبه المكيفة في مراحل تاريخية متواترة، وفقاً لمصالح خلفاء وحكام مستبدين.
إن المحيط العربي والإقليمي الإسلامي، الذي تحرّر من أسر الدولة العثمانية، وجد نفسه في مصيدة الدول الغربية الاستعمارية، مجرداً من الاستقلال والإرادة، مجزّأً إلى دول وكيانات تابعة وضعيفة البنيان ومكيفة تأسيساً على الخارطة المرسومة بعد الحرب العالمية الاولى وفقاً لمصالح الدول الكبرى المنتصرة واستراتيجياتها المستقبلية وتصوراتها للمنطقة والدول الناشئة فيها، آخذة بالاعتبار ضمان حماية تلك المصالح، ضد نهوض شعوب وأمم تلك الدول.
وجاء التأسيس الجديد للدول، محروساً بحكوماتٍ موالية وقاعدة اجتماعية مستفيدة وطبقة متنفذة تمتلك مقومات ردع أيّ تحرك وطني شعبي يستهدف مصالح الدول "الراعية" وينقض المعاهدات الاستعبادية معها، بالاعتماد على آليات دستورية تضبط إيقاع الدولة، وتجردّها من أي فعل مستقلٍ خارج الحدود المرسومة. وكانت احدى أدوات القهر والاستلاب، إبرام المعاهدات والاتفاقيات الجائرة.
لم يكف الدول المتشكلة من فسيفساء عرقية واثنية وخلافها، ما أُرسي في أسس بنيانها من عوامل كفيلة بتفكيك مجتمعاتها، ومن تناقضات في تركيبتها الاجتماعية، تمس قوس حساسياتٍ دينية- مذهبية، قابلة في اللحظة المناسبة لإثارة فتنٍ وإذكاء أحقاد وضغائن مستمدة من تاريخ العصبيات ومجساتها المشحونة بالعناصر المستنفرة للانبعاث، وهي عصبيات أيقظتها ورعتها الصراعات على السلطة والخلافة في مرحلة نكوص الدين الإيماني، وسيادة الدين السياسي، وتمكين وعاظ السلاطين، واشباه رجال الدين، من تكريس الخلافة في الدولة المستبدة.
ان النصف الاول من القرن العشرين كان عهد صراعٍ متصاعدٍ خاضته الشعوب العربية والاسلامية لنيل التحرر والاستقلال والحرية ضد الاستعمار ومعاهداته الجائرة. وقد كان ذلك الصراع عامل توحيد واستقطاب للشعوب، في مواجهة عدوٍ غاصبٍ تتراجع في مواجهته كل التناقضات الثانوية والهويات الفرعية، عرقية كانت او اثنية او قومية. واستقطب الصراع "الدين" بما يتفرع عنه من مذاهب وطوائف، ليلعب دور الموحد والمحرض، ولتنبعث مع هذا الدور الدعوة التبشيرية الوطنية ضد الظلم والعسف والتمييز، ولتنهض عناصر وقوىً دينية تنويرية تحفز على التحديث ونبذ التخلف، وتنخرط بفعالية في الحركة السياسية الوطنية، وتتصدى لكل الانحرافات التي تجعل من الدين وقيمه منصات للفرقة والشعوذة والفتنة الطائفية.
وخلافاً لمرحلة النهوض السياسي الوطني الذي اتسم به النصف الاول من القرن العشرين، تعثرت إرهاصات التنوير الديني، والتلاقح بين رجالاته والحركة الوطنية التحررية التقدمية، لتتأسس أحزاب وجمعيات دعوية شكلت تيار الاسلام السياسي، وتحولت الى مراكز قوىً تصطف ولو ضمنياً مع الحكام والانظمة اليمينية والشمولية، في مواجهة الزخم المتصاعد لحركات التقدم الاجتماعي والاقتصادي المطالبة بإجراء انعطافاتٍ سياسية ديمقراطية، وبإصلاحات اقتصادية يتحقق معها القدر الممكن من المساواة والعدالة الاجتماعية. وقد تشكلت تلك الاحزاب والتجمعات الاسلاموية من روافد فكرية وعقائدية تلتقي بشكل مباشر وضمني في التحريض على محاربة الأفكار التقدمية تحت الشعار سيئ الصيت "مكافحة الشيوعية". ولم تخف تلك القوى لقاءها مع التوجهات والدعوات الغربية الاستعمارية والنازية، ولا استعابت من تحركها على ارضية "الإيمان السماوي" الظاهري، ضد ما روجت له من الاتهام الباطل بالكفر والإلحاد، لتشمل بها كل القوى والشخصيات الوطنية الداعية للتحرر الوطني وانجاز السيادة والاستقلال ووضع البلدان العربية على طريق التقدم والتطور الاجتماعي والاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية في اطار نظام ديمقراطي.
وفي تلك المرحلة، ضاقت المساحة بين الدعاة من الاحزاب والتجمعات على كلا الضفتين الشيعية والسنية، في مواجهة هدف التصدي المشترك لـ"الشيوعية"، وهو مصطلح أُطلق على كل الحركات والأحزاب والقوى المناهضة للإمبريالية والاستعمار والرجعيات الشمولية المستبدة. وعلى خط متوازٍ متداخل مع التيار الجديد المضاد للحركة الإصلاحية التنويرية لرجالات النهضة في اوائل القرن الماضي، انبعث الدخان الاسود من مبخرة ميشيل عفلق، ليعلن عن تأسيس الحزب الذي صار بعد ضم تنظيمات اخرى "حزب البعث العربي الاشتراكي".
ولم تكن مجرد صدفة ان يلتقي الحزب الجديد في مسوغات ومبررات تشكيله، مع تيار الإسلام السياسي برافديه، وان يتحرك لمواجهة نفس الخطر المزعوم "الحركة الشيوعية" سوى انه كان ينطلق من فلسفة هتلر التي دونها في كتاب "كفاحي"!
بعد صعود حركة التحرر الوطني، ونجاح العديد من انقلابات الضباط الأحرار، واستيلائهم على السلطة السياسية، شهدت المنطقة حراكاً جديداً كان يوحي بانبثاق عهد يعيد الاعتبار للارادة الشعبية، ويُرسي اسس دول مدنية ديمقراطية، تتجه صوب تحقيق الحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية. وتعززت في السنوات الأولى لسيطرة العسكر "الوطنيين" مواقع قوى التغيير الديمقراطي، متوهمة أنها تعيش في ظل انظمة وقيادات تنطلق من الاهداف والشعارات الوطنية والقومية التي أعلنتها في بياناتها "الثورية" الاولى وعمدتها بالصراع ضد الاحلاف العسكرية والأنظمة المنخرطة فيها، والممالئة للمشاريع والاستراتيجيات الاميركية والبريطانية في المنطقة. وسرعان ما انكشف المستور من نهج وسياسات تلك الانظمة وقياداتها، فقد تشكل من ربابنتها الآتين من البداوة الريفية نمطا مشوها من "المستبد الوطني" غير العادل، الشره للنعمة والجاه والمهووس بكرسي السلطة، والمتعبد لصولجانها وسجادتها الحمراء التي تمهد لتقبل الوان الفساد والمفاسد.
وبخطوات تدريجية تمهيدية، وفي جو من التهريج "الثوروي" أسقط الأقنعة عن وجوه قادة أنظمة "التحرر الوطني"، تمت تصفية الحياة السياسية من قوى المجتمع ونواتاتها الحية وبدأت عمليات تخليق ادوات اجتماعية سياسية ودينية، لتحل في الفراغ السياسي الذي خلفته الاحزاب والقوى الديمقراطية، لتُنظّر لتلك القيادات باسم الاسلام وتحت خيمته.
وشهد ذلك العهد، ظهور النميري وبرز صدام حسين صاحب "مأثرة" الحملة الايمانية الممتدة حتى يومنا، ومعمر القذافي مختلق الكتاب الأخضر المستنبط من القرآن تحريم الاحزاب والتحزب، وبن علي وعلي عبد الله صالح والسادات المؤمن الذي اطلق الاخوان من القمقم ومحمد حسني مبارك، وهم الذين وجدوا في الاسلام السياسي اداة لمواجهة القوى الديمقراطية. ومهد كل منهم، وفي بيئة سياسية تعتمد القمع والعنف، لصعود موجات من النشاط "الديني المعتدل" واطلقت لها حرية تشكيل الجمعيات الدعوية والخيرية والدينية في مراكز المدن والاطراف وفي الاصقاع النائية من تلك البلدان، وراحت تحتل منابر المساجد ومقرات الجمعيات، لتحرض على من أسمتهم بالملحدين العلمانيين، بينما هم دعاة الديمقراطية و"الليبرالية"، وقيم العدالة الاجتماعية.
ولا يمكن اغفال دخول الجمهورية الايرانية الاسلامية على مشهد المحيط العربي -الاقليمي الاسلامي، لتدخل على مسارات خطين متباينين متداخلين في مرحلتها الاولى: المواجهة مع الشيطان الاكبر، الولايات المتحدة الاميركية، من جانب، وحلفائها من الملوك والرؤساء العرب، والشروع بالسعي للي اذرعهم، من خلال القضية الفلسطينية وتبني برنامج الحد الاقصى لمنظمة التحرير وفصائلها المتشددة.
وكان هذا الدخول على خط الصراع العربي- الاقليمي- الدولي يحمل في طياته تناقضات، بعضها يتحمل التسكين، وآخر تناحري يعتمد المناورة وسياسة الكر والفر.
في وقت مبكر من صعودها، وجدت الجمهورية الوليدة نفسها في حرب ضروس مع نظام صدام، الذي اشعلها معتمداً على المفاجأة والضربة الاستباقية. وخرجت الشياطين بفعل نيرانها من "صندوق باندورا" لتنشر لوثة الفتنة الطائفية في المنطقة، وتحرك بذلك آلة وأدوات الصراع الطائفي، ليتمدد في كل اتجاه، ويشمل البلدان العربية كلها على وجه التقريب.
وهكذا تجمعت الغيوم السوداء لتمطر "مياهاً آسنةً" ليفيض العالم العربي بها، وتحولت الحرب العراقية الايرانية الى مناسبة استذكار واحياء لماضٍ مترعٍ بالضغائن والتشوهات والانحرافات عن اصول الرسالة المحمدية، كما استرجعت "القادسية" لتبرير خوض حرب ضد "الفرس المجوس". ويهوي العالم العربي المُثقل بالجراح، في تناقض مذهبي، يستثير نمطاً متوحشاً من العنف والعصبية والتطرف الديني التكفيري، المتحول بامتياز الى أدوات سياسية، وظيفتها، فك عزلة الأنظمة المستبدة، وتصديرها خارج دوائرها.
كان عهداً تنفست فيه الأنظمة المخاتلة الصعداء، وانكمشت الشعوب في كمامات يأسها وحيرتها، لتواجه عبر خطوة واحدة انفلات صنفٍ حيواني متوحش من الإرهاب والعنف والتطرف، ينبعث هذه المرة من لقاء إسلامي على امتداد العالم، يستنفر كل مسلمٍ "للجهاد في أفغانستان"، فيما اتجهت خيالة القادسية من قبائل الفتنة العربية لتؤسس لمرحلة تطرفٍ تجاوز بوحشيته كل حدٍ مفرطٍ، خارج التصنيفات الآدمية، ليمهد لمرحلة تكفير وتطرف عنف العرب الأفغان...!
جميع التعليقات 1
نبيل
والله حفنة ضباط كانو يعملوا ثورات باسلوب انقلابي وهذة الايام الايام شعوب كاملة تثور مش قادرة تعمل ثورة بل بالعكس الشعوب هي المتخلفة تكره بعضها وتبحث عن الخلافات شيعي سني جنوبي شمالي فلسطيني اردني الخ الخ الله يستر الامة كنت افكر المشكلة بالحكام وجدت حا