TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > فانتازيو

فانتازيو

نشر في: 2 فبراير, 2014: 09:01 م

أوبرا، وكان اليوم ممطراً، سوف تُعزف بصورة غير مسرحية في "قاعة المهرجان الملكية" في مجمع "الساوث بنك". ثم أن الأوبرا غير معروفة جداً وضعها الموسيقي المعروف جداً "أوفنباخ" (1819ــــ 1880). عناصر أكثر من مغرية، بالرغم من أن "أوفنباخ" مؤلف أوبريت لا أوبرا. والأوبريت ضرب من التأليف الموسيقي المسرحي الذي يتمتع بخفّة الوزن، مقارنة بثقل الوزن في الأوبرا، وأنا لا أميل إليه. ولكن لـ "أوفنباخ"، وهو ألماني المولد فرنسي النشاط، عملَ أوبرا حقيقياً وضعه آخر حياته ولم يُكمله، بعنوان "حكايات هوفمان". وهذه الأوبرا التي أذهب إليها اليوم كانت تمهيداً لتلك الحكايات، من حيث جديتها، وهي بعنوان "فانتازيو: ملك الحمقى".
المسافة بين محطة القطار وقاعة العرض تستغرق قرابةَ الدقائق العشرة. وهي في جو ممطر تصبح مفازة. وصلت مقعدي، بين مقاعد الدرجة المتواضعة، مبتلاً. تحتل المقعدين أمامي مباشرة شابتان، حدست أنهما طالبتان أغواهما سعر التذكرة المخفض للطلبة، في هذه الدرجة المتواضعة، فجاءتا بدافع الفضول، فتشاءمت. وبالفعل فقد أفسدتا علي الفصل الأول بجملته، بسبب حديثهما وضحكهما الهامس الذي لم ينقطع مع بعض.
خارج دور الأوبرا عادة ما يتم عرض الأوبرا بصورة شبه مسرحية، أو غير مسرحية تماماً. لا ديكور، لا إضاءة خاصة، لا أكسسوار، لا مكياج. وها أمامي توزعت "فرقة عصر التنوير الأوركسترالية" ثلثي المسرح على اليمين، وبقي الثلث الآخر على الشمال للكورس. وراء منصة قائد الأوركسترا (مارك أَلدر) نُصبت عدة حاملات نوتة للمغنين المنفردين، الذين يمثلون أدوار الحكاية الأوبرالية. وأنا مطمئن إلى أني لن أكون رهين مؤثرات باهرة خارج النص الموسيقي والنص الكلامي. سأنصرف إلى الموسيقى وحدها. ولولا حاجتي لقراءة الحوار على الشاشة المستطيلة في أفق المسرح، لقلت: سأصغي مغمض العينين.
هذه أوبرا منسية، لا بد أنها تنطوي على لذاذة الألحان التي ألفْتُها في "حكايات هوفمان". ولقد فُتنتُ فعلاً بالافتتاحية بالغة الهدوء، (لعلها أنامت جمهور باريس حين عُرضت أول مرة عام 1872، كما يُلمّح أحد النقاد). بعدها يضج الكورس الذي يحتفي بإعلان خطبة ابنة ملك بوفاريا مع أمير مانتوا (زواج مصلحة سياسية). الأميرة حزينة على موت مُهرّج البلاط الذي كان يُضحكها. طالب صعلوك يُدعى "فانتازيو" كان يطمع بالتقرب من الأميرة، يتزيا بزي المهرج ويدخل الحفل. يضحكها ويُسرّب إلى مسمعها تساؤلاً يُربك عقلها، مفاده: "هل أنتِ قادرة حقاً على حب إنسان لا معرفة لك به؟" شخصية الأمير الباهتة، الذي يتعرض لسخرية فانتازيو، عززت من فقدانها الثقة بعاطفتها. يُعتقل فانتازيو لديون لم يُسددها، ومن السجن تُهربه الأميرة إذ تعطيه مفتاح باب خلفي، وقد استلطفته، بل أحبته، إذا ما وثقنا بعواطف أغانيها الحارة. حين يلتقيها ثانية ليعيد إليها مفتاح السجن تقول له: "احتفظ به"، إشارة رمزية لآمال قادمة.
الأوبرا هزلية كما هو واضح، ولكنه هزْلٌ لا يبعث على الضحك كثيراً بفعل الأغنيات العذبة، العميقة الأسى التي تصدر من فانتازيو (قامت بالدور سارة كونيللي ــــ درجة سوبرانو الوسطى) والأميرة (بريندا رَي ــــ درجة سوبرانو) بصورة خاصة. موسيقى الكورس والأوركسترا كخلطة الزبدة بالعسل. ولقد خطر لي قبح التاريخ الذي تصرف بعمى بالغ، حين أفشل عرض هذه الأوبرا الأول وطمرها في النسيان. ولعل فشلها مع الجمهور الباريسي كان بسبب الحرب الفرنسية ــــ البروسية الدائرة رحاها آنذاك، فالجمهور لم يتقبل نزعة سلمية وسمحة من قبل مؤلف ألماني الأصل.
أوفينباخ رائد فن الأوبريت، اشتهر بمئة عمل منه لمْ تتوقف عروضها حتى اليوم، إلى جانب أوبرا "حكايات هوفمان". ولد في كولون الألمانية، وتميّز بموهبة موسيقية منذ الصغر. حاول الدراسة الموسيقية المُنتظمة فلم يجد فيها مُبتغاه، فانصرف إلى عزف التشلو مصدراً لدخله. ولكن تطلعه لأن يكون مؤلفاً في حقل الأوبريت لمْ يُطفأ في كيانه. هاجر إلى باريس، وشرع هناك في التأليف ففشل في البدء، الأمر الذي جعله يبتني دار عرض صغيرة في "الشانزليزيه"، وصار يقدم أعماله الصغيرة فتنجح لدى الجمهور، الذي اتسع مع الزمن ليصبح عالمياً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram