تكررت الطرقات الخفيفة المتسارعة على باب البيت كما يحدث مساء كل يوم أو عند حلول الليل ومرات في منتصفه , وبدرجة شبه متفق عليها بيني وبين أمي الضريرة في تعاملنا معها من الإهمال واللامبالاة بحيث كنا ننساها لأننا كنا منشغلين بما آلت إليه الأمور من ح
تكررت الطرقات الخفيفة المتسارعة على باب البيت كما يحدث مساء كل يوم أو عند حلول الليل ومرات في منتصفه , وبدرجة شبه متفق عليها بيني وبين أمي الضريرة في تعاملنا معها من الإهمال واللامبالاة بحيث كنا ننساها لأننا كنا منشغلين بما آلت إليه الأمور من حولنا من خراب وتعاسات وهو لم يكن بحاجة لنا بل كنا نحن كلنا بحاجة له , وظل اعتقاد أمي الضريرة به قويا لا يتزعزع أبدا , في ساعات كثيرة وطويلة كانت تناجيه بصبر لا مثيل له , وغالبا ما كانت تستيقظ من نومتها القصيرة على صوت الطرقات المتسارعة , الخفيفة كالهمس المطمئن لحالته في إرسال الطرقات كبرقيات لم تُرسل إلينا نحن الفقراء منذ زمن بعيد , وكان من الصعب عليَ ان اقنعها بان لا جدوى من انتظارها المضني ،لكنها كانت تصر على ان تفكيري قد أصاب العطب جوانب كثيرة منه ولم أنتبه إلى ما حل بعقلي , كنت اضحك بقوة من أعماقي السحيقة على فكرتها القاسية عنه وعني , كانت الضحكة تشجعها على المضي في تعنيفي وتحريك مكامن مودتي لها وهي تعلم تماما أني لن أتخلى عنها مهما كان حكم الزمن , فهي أمي التي ينبغي لي رعايتها بعد ذلك التعب المشهود لها برعايتي في الأيام الخوالي قبل ان تفقد النور من عينيها شيئا فشيئا وعلى مر الأيام المرهقة التي مرت علينا كلنا ... غايتي ان أرضيها وأجلب السعادة إلى قلبها الضعيف المعطوب كما تسميه هي حين تريد الاعتماد عليه في الملمات والشدائد , لن أتوانى عن إسعافها حالما تناديني أو تنتظر العون مني , فهي أمي الضريرة التي فقدت نظرها بالتدريج حتى وقفت ذات يوم في ساحة الدار معلنة بصوت ملتاع عن عماها المطبق وهي تصرخ بنا : -- الآن انتهت لعبة الحظ معي يا أولاد , أنا أمكم لا أرى ما موجود أمامي ولا ما هو خلفي وكل ما يتحرك حولي اصبح بعيدا عني .لقد أصبحت عديمة النفع لأني ما عدت أرى شيئا أبدا .
نهضتُ متجهاً نحو الباب في تلك الساعة المتأخرة من الليل , لكي أفتحها , في بداية الأمر مدت يدها إلى يدي وضغطت على الرسغ بقوة , هزت رأسها وأشارت علي ألا أذهب إلى الباب لأفتحه لأني كنت غاضبا جدا من تلك الطرقات .. في البدء حذرتني ألا أتورط معه ،فهو كثيرا ما يبدو مهموما لا يكن للآخرين أي اهتمام أو مراعاة لحقوقهم المغدورة وهو يعلم بها علم اليقين وحتى لو وجدهم يدفعون الثمن باهظا مراعاةً منهم لأحقيته بالاحترام والتقديس , فالتبجيل واجب في حضرته وهو مقدس عند الآخرين حتى أولئك الذين لا نعرفهم معرفة تليق به كما تليق بهم وعدم اهتمامه بنا نابع من معرفته إلى أين ستنتهي الأمور بنا جميعا ..
أصرت أمي الضريرة على ملاقاته بكل السبل وكذلك الاستعداد للاستماع إلى ما يشير به عليها , حتى لو لم نأخذ بكلامه مأخذا يوازي مأساتنا التي يعرفها معرفته لنا , كان ما يؤلمها هو ان الفقراء من أمثالنا يزدادون فقراً وتعاسةً، بينما الأغنياء يزدادون ثراءً وهو ينظر ويبتسم ولا يعقب على فحشائهم بشيء , أي الخطط كان ينوي ان يهيئها للانقضاض على الفحشاء المستشرية في هذه الأنحاء الدائرة من حولنا ؟ .. أنا لا أعرفه معرفة أكيدة فقد ملأت أمي رأسي بالكثير من الحكايات عنه دون رؤيتي له ولم يحصل ان تحدثت إليه مباشرة ،بل هناك من معارفي من أكد إعجابه بي على أساس أننا نعمل في حقل متجانس عملا ماديا ملموسا لا تشوبه أي شائبة أو نكران من الآخرين المتطفلين أو المتبطرين , قالوا :إنه غالبا ما تحدث عني بإسهاب بحيث يستولي الملل على سامعيه من كثرة الإطراء والتبجيل ,وربما هذا الذي يقوله البعض عني وعنه مثار غيرتهم مني وحسدهم لي لتقربي من عطاياه السرية التي حدثتني أمي عنها حين كنت صغيرا غض الإهاب كما يقال عادة عن أولئك الفتيان الأشداء الذين لا يتوانون عن بذل المزيد من التفاني والتضحية من اجل رعاية الأم الضريرة والأب الذي راح ضحية احد التفجيرات الشريرة , مات أبي في تلك الأيام العسيرة على الهضم والاستيعاب , وبقيت أمي الضريرة تتوعد الأيام الآتية بالانتقام المفاجئ من كل ما حملته لنا من ضيم ومحن .. لم يكن هذا الذي أسمعه من الآخرين ليغريني أو يكون سببا بانتفاخ أوداجي , بل قل العكس من ذلك كله إني كنت أمتعض من إهماله لنا عمدا بتخطيط مسبق , أعني إطراءه لي الذي يكلفه مشقة الكلام بشأن مكانتي المفترضة , وهي مكانه لا غبار على أهميتها لديه ،وليس هذا وحده ما أثار انتباهي أو اهتمامي بشأن الأقاويل التي تجرأت على نفيه من الوجود كلية ولا أنكر أن هذا أثار حفيظتي وسخط السيدة الضريرة حين تجرأ احدهم وبثها نتفا من معتقدات أكل الدهر عليها وشرب , ومع هذا كنت اكثر هدوءاً مما توقعت , حين أرادت أمي الضريرة النهوض على قدميها للذهاب إلى الباب لكي تفتحه هي لطارقه في هذه الساعة المتأخرة من الليل معتمدة على عصاها , غير أني منعتها من مغادرة مكانها الدافئ في زاويتها التي خصصتها لنفسها بقناعه مطلقة وراحت منذ ذلك اليوم الذي اعتبرت تلك الزاوية أو الركن من البيت حصتها ولا يجوز لأحد أي احد ان يستولي عليها , أرادت النهوض بعد تلاشي الطرقات السريعة المرتبكة بعض الشيء , منعتها بيدي برفق :
-- أنا سأذهب يا أمي لأفتح الباب ..
رأيتها تقعى في الركن ذاك ولم تبدِ مقاومة ملموسه , للذهاب إلى الباب لكي تفتحه لتعرف من الطارق , أردت ان أذكّرها أنها لا تستطيع ان تختزل الأمور بحركة واحدة وحتما ستعرف معنى ذلك المرمى الذي أقصده وتلك الغاية التي أهدف إليها من إشارتي بخصوص عدم تمكنها من اختزال المعنى ومعرفة الطارق , بالسهولة التي تفترضها أمي الضريرة , ويبدو كلامي الأخير معها أثنى رغبتها في اعتمادها على عصاها والاتكاء عليها للذهاب إلى الباب لتفتحه للطارق , جلست في ركنها الصغير ولم تتزحزح منه أول الأمر ولم تبدِ رغبة في فعل أي شيء يمكنها القيام به امرأة عجوز وضريرة , ولكن ما أثار عجبي أنها استندت ثانية على عصاها حالما أدركت إصراري على فتح الباب مهما كلفني الأمر من مشقّة , وجدتها تتبعني في حركتي , ولما اعترضت على همتها في تسلق خطواتها المتعبة , قالت في الحال : أخاف عليك من أي طارئ يا ولدي كيف أسمح لنفسي أن أدعك تتجه نحو المجهول ؟ ألا ترى الليل كيف تزأر الريح في أعطافه وثناياه ؟ والظلام تزداد حلكته ؟
قلت لها : لقد أخفتني يا أمي الطيبة بكلامك
عن الليل والظلام ؟
-- كلا أنا لا أخيفك بل أنت خائف مما يجري من حولنا ..
رغم ذلك نهضتُ متجهاً نحو الباب منتظراً عودة الطرق عليه مرة أخرى لكي أفتحه , وحالما توجهتُ إلى هناك نهضت أمي الضريرة معي حالا , قالت إنها لن تتركني أذهب وحدي بل ستكون معي في الليل والنهار , في تلك اللحظة سمعنا معا صوتا خافتا يتردد بطرقات متسارعة , اتجهنا نحو الباب لنفتحه , خطت أمي أمامي أول الأمر خطوتين اثنتين , مالبثت ان تقدمتها نحو الخارج ,بخطوات ثلاث , أمسكت بأكرة الباب وأدرتها بقوة لكي أسحبها , حالا فتحتهُ على مصراعيه , أصغت أمي بكل جوارحها لكي تسمع أي شيء وقد شاركتها الإصغاء والترقب لأية حركة تأتي من الخارج , لم يكن ثمة أحد هناك غير الليل والريح تعول في الطرقات..