عبدالستار ناصر : تظل ديار الغربة في نظر المثقفين الملاذ الآمن ، حيث أن الغربة تتسع لأحلام الورق ، بينما تضيق بلادهم بهذه الأحلام ، و إذا كان ( لا يعرف الشوق إلا من يكابده ) ، فإن كاتب السطور أمضى في الغربة ما يقارب الربع قرن ، و كانت عودتي إلى الوطن
عبدالستار ناصر : تظل ديار الغربة في نظر المثقفين الملاذ الآمن ، حيث أن الغربة تتسع لأحلام الورق ، بينما تضيق بلادهم بهذه الأحلام ، و إذا كان ( لا يعرف الشوق إلا من يكابده ) ، فإن كاتب السطور أمضى في الغربة ما يقارب الربع قرن ، و كانت عودتي إلى الوطن قسرية بعدما خرجت منه قسرا" ! ، و يكاد يكون العراق أكثـر بلدان الله التي خرج منها مبدعوها قسرا" إلى بلاد الغربة ، حتى أن رواد الشعر العراقي الحديث ، كانت نهاية حياتهم في هذه الغربة ، بدءاً" من بدر شاكر السياب و مروراً" بعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري ، و انتهاءً" بنازك الملائكة !
وعلى هذا المنوال رحل القاص والروائي العراقي عبدالستار ناصر في كندا ، وأعقبه بيوم واحد الشاعر العراقي الكردي شيركو بيكس في السويد .
عبدالستار ناصر يعتبر من أهم كتّاب القصة والرواية في جيل الستينات ، و قد أصدر ما يقارب الخمسين كتابا" في القصة والرواية والنقد والكتابة الحرة ، و قد تُرجمت بعض أعماله إلى الإنكليزية والألمانية والروسية ، ومن جراء قصته القصيرة ( سيدنا الخليفة ) أمضى عاما" كاملا" في ( ضيافة ) سجون النظام العراقي السابق ، كما أُعدم ابنه و شقيقه ، و قد اضطر للخروج من العراق في عام 1999 إلى الأردن ، إلى أن حصل على ( اللجوء الإنساني ) في كندا التي كانت مطافه الأخير و نهاية حياته الضاجّة ، عبر قصصه المثيرة و الجريئة ، و كتاباته التي توزعت على المقالة الأدبية و العاطفية و الذاتية ، التي عدها النقاد من أجمل ما كتب !
و خلال إقامته في الأردن دهمه المرض ، حتى أنه في إحدى المرات نجا من الموت بأعجوبة ، عندما تعرض إلى ( جلطة دماغية ) ، و قد عاش مع المرض في هاجس الموت ،إذ عندما يلتقي هذا الصديق أو ذاك ، يقول بأسى : إنه آخر لقاء بيني وبينك ! ، بل إنه راح في تكرار هذه المقولة في حواراته وأحاديثه الصحفية ، و ربما هاجس الموت هذا ، جعله يحضّ عليه الموت ، حتى نال منه أخيراً !
كانت وصيته أن يُدفن حيث يقيم ، كان قرارا" مسبقا" من عبدالستار ناصر الذي لم يخف حالة القطيعة بينه و بين الوطن ، إذ قال في إحدى أوراقه المقروءة في إحدى المناسبات مؤكدا" :
هذه الفاجعة و مثيلاتها شحنتني برغبة قوية في المغادرة ، و سهّلت قرار القطيعة النهائي مع العراق .
2
صحيح أنّ الحنين ما زال مستقراً بقوّة في داخلي ، أحنّ إلى بغداد على وجه الخصوص ، حيث طفولتي و صباي و شبابي ، ذكريات تعيدني إلى سوق السراي ، و شارع المتنبي ، و إلى أصدقائي و أخواتي و بناتهن و أولادهن ، أتألم لأنّهم ما زالوا يعيشون في جحيم الموت و السيارات المفخخة و صهاريج الرعب .
كتب سيرته الذاتية في روايتين : الأولى ( حياتي في قفص ) ، و الأخرى ( على فراش الموز ) ، و في هذا الجانب قال في أحد الحوارات التي أجريت معه ، ( أنا أخطر قاص عربي ) .
و من الأمور التي جرت بيني و بين عبدالستار ناصر التي تستحق الوقفة و الإشارة إليها في هذه الكتابة ، هو أني أجريت معه حوارا" في الربع الأخير من الثمانينات في بغداد لصحيفة حكومية ، و في معرض إجابته على أحد أسئلتي قال ، ( إن أجمل أوقاتي هي التي أقضيها على الساحل اللازوردي في معانقة زجاجات البيرة والحسناوات ) ، و لكن هذا الحوار لم يُنشر ، لأن القائمين على الصحيفة فطنوا إلى أن هذه الإجابة تشير إلى ( عدي صدام حسين ) ، و عندما راجع عبدالستار ناصر الصحيفة المذكورة بغرض الاستفسار ، لم يجد إجابة حاسمة من المسؤولين على الجريدة ، بل أن الحوار المكتوب اختفى من الوجود !
بعد أيام من مراجعته للجريدة التقاني عبدالستار ناصر في اتحاد الأدباء و سألني ، أتعرف لماذا لم ينشروا الحوار ؟ ، فأجبته بسبب ( اللازوردي ) ، فضحك و قال ( أنت ذكي ) ، و منذ ذلك الوقت لم ألتق الراحل ، لكوني هربت إلى سوريا ، و من سوء حظي أن عبدالستار ناصر زار سوريا زيارة قصيرة قادما" إليها من الأردن ، بيد إني لم أعلم بهذه الزيارة ، خصوصا" و أني كنت منقطعا" عن الوسط الثقافي العراقي المتواجد في سوريا في حينه .
كان عبدالستار ناصر وسيما" و له الكثير من المعجبات اللواتي ينجذبن لقصصه ذات السرد العاطفي و الرومانسي ، كما أن حضوره اللافت في الفعاليات الثقافية ، كان مدعاة للكثير من الحسد والغيرة من قبل بعض زملائه ، فهذا البعض انزوى إبداعيا" ، بينما قطار عبدالستار ناصر انطلق مسرعا" في سكة المنجز القصصي والروائي .
شيركو بيكس : بعد يوم من وفاة القاص والروائي عبدالستار ناصر و تحديدا" في 4 / 8 / 2.13 ، توفي في السويد الشاعر الكردي العراقي الكبير شيركو بيكس ، الذي يُعتبر من أكبر المجددين في الشعر الكردي المعاصر ، هذا الشاعر الشهير التقيت به في بلدة ( شقلاوة ) التابعة لمحافظة أربيل في العام 1991 ، عندما كنت أروم الهرب إلى سوريا عبر المنطقة الشمالية ( كردستان العراق ) التي كانت في حينه خارج نطاق سيطرة.
3
النظام العراقي السابق ، و قد أخبرني أن المثقفين الكرد العراقيين المقيمين في السويد يطلعون على كتاباتي في إحدى الصحف المحلية العراقية التي تصلهم على الدوام ، وهذه الجريدة كانت تضطلع بالشأن الكردي ، و من خلال صفحة ( ثقافة كردية ) رحت أتناول الثقافة الكردية و منجزاتها ، و أستغل في نفس الوقت عبرها تمرير أفكاري التي ليس لها مجال في الصحف الحكومية الأخرى .
في حينه كنت قد بلغت صيتا" واسعا" في المنطقة الكردية ، و لا سيما بين السياسيين و المثقفين الكرد الذين عدوني ( مستكردا" ) ، و هو أمر استفدت منه عندما لجأت إلى المنطقة الكردية التي عبرت من خلالها إلى سوريا ، حيث حظيت بحفاوة متميزة من قبل السياسيين و المثقفين الكرد ، إلى حد عبوري إلى الأراضي السورية ، و في هذا الجانب و خلال مكوثي في المنطقة الكردية في شمال العراق ، كتبت دراسة مطولة عن الأدب الكردي ، حيث نُشرت في صحيفة كردية كانت تصدر في إقليم كردستان آنذاك .
شيركو بيكس ، لا يقتصر إبداع شعره على النطاق الكردي و حسب ، بل عدّه بعض النقاد العرب ، بأنه شاعر عالمي بكل المقاييس ، و أن تجربته هي تجربة إنسانية رائعة عميقة المغزى ، وتوازي النماذج الشعرية العظيمة من رامبو و إليوت وصلاح عبد الصبور ، تلك النماذج التي قدمت الشعر بما يتجاوز المحلية إلى العالمية بما تطرحه من تجربة متفردة ، فهو شاعر أثر على الكثير من الأجيال الجديدة من خلال لغته المكثفة باعتماده على عناصر الأساطير الكثيرة ، و لغة تحمل الكثير من المميزات الفكرية الجديدة خاصة في ما يتعلق بقصيدة النثر الموجودة الآن في الوطن العربي .
كان عزاء الشاعر فائق بيكس خلال فترة مرضه و قبل رحيله بشهرين ، هو قيام نائب رئيس حكومة كردستان العراق عماد أحمد ، بالتوجه إلى السويد و زيارته وتفقده ، و تقديم الدعم المعنوي و المادي ، و كذلك التكفل بتسديد كل أكلاف العلاج المطلوب ، مع التذكير بأن شيركو بيكس كان وزيرا" للثقافة في حكومة كردستان العراق قبل أن يترك هذا المنصب ، عندما اختار الشعر على الوزارة.