تتعاظم حملة العراقيين ضد الامتيازات التقاعدية التي شرعها النواب لأنفسهم، حتى استدعى ذلك تدخل المرجعية العليا في النجف الأشرف، للتنديد بتجاوزات النواب على المال العام، والدعوة لإسقاطهم في الانتخابات المقبلة، وهو موقف تُشكر عليه، وينسجم تماماً مع المشاعر الشعبية، ويذكرني ذلك بالامتيازات التي شرعها نواب الأردن لأشخاصهم، بما فيها تقاعداتهم التي لاتنسجم على الإطلاق مع ما قدموه من خدمات، هذا إن كانوا قدموها، والمؤكد أن العديد من أعضاء مجلس النواب العراقي، لم يكن لوجودهم أثر خلال أربع سنوات، حتى أن بعضهم لم يحضر لمبنى مجلس النواب أكثر من عدد أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك سينال تقاعداً يقدر بالملايين، في بلد يعيش فيه بعض المواطنين على الملاليم.
تتشابه البرلمانات العربية، فحال العراقي ليس أكثر سوءاً من الأردني، حيث وصلت الأمور حد استعمال الأسلحة الرشاشة تحت قبته، وحيث فيه من يرفض فكرة الدولة المدنية بأعلى صوت، ولا يتفوق عليهما غير مجلس الشعب السوري، الذي يتقن أعضاؤه التصفيق فقط، وكل واحد منهم ينطبق عليه قول الشاعر "ما قال لا، قط، إلا في تشهده .. لولا التشهد كانت لاؤه نعم"، مع بُعد الفارق في من قيل فيه هذا الشعر والمعنى المقصود، وبين هذه البرلمانات يبرز اللبناني، وهو مثال صارخ على المحاصصة الطائفية المُقننة، والمنصوص عليها دستورياً، وهو في أغلب الأحيان عاجز يسيره قادة الأحزاب على قدر أجنداتهم، الموضوعة والمرسومة خارج حدود وطن الأرز.
سيقول كثيرون إننا من أوصل هكذا نواب إلى مواقعهم، وأن اللوم يقع علينا، ولهؤلاء نقول، إنه حين يجوع المواطن بقرار من سلطات بلاده، يكون مستعداً لقبول الغذاء من المترشح للنيابة، وحين ينظر إلى أطفاله يرتعدون برداً، فإنه يقبل مدفأة مقابل أن يدلي بصوته لصالح من أوصلها لمنزله، مع أنه لايملك ثمن وقودها، نتحدث هنا عن المال السياسي، وهو السيّد في كل الانتخابات، ولا ينافسه في هذه السيادة غير الشحن الطائفي، الذي ترتفع وتيرته هذه الأيام في العراق، وستشحن به أجواء لبنان قريباً، وهو الذي يقود معارك الإخوة الأعداء في سوريا، ويأخذ وجهاً أكثر بشاعة في الأردن، حين يمنح إبن القبيلة اليساري صوته للشيخ الذي يرى اليسار كُفراً وإلحاداً.
ليست التقاعدات الفلكية التي أقرها نواب العراق لأنفسهم دون وجه حق، هي ما يدفعني لطرح الموضوع، وإنما معرفتي مؤخراً أن بعض الشهداء، وخصوصاً من اليساريين والمثقفين العراقيين، من الذين اغتيلوا على يد فلول البعث، أو المتشددين والتكفيريين، لا تحصل عوائلهم على راتب تقاعدي يكفيها مؤونة العيش، ومثال ذلك الشهيد قاسم عبد الأمير عجام، وقد مضى على استشهاده عديد السنوات، لكن عائلته لم تحصل على راتبه التقاعدي، فقط لأنه لم ينتم لحزب ديني، وكان ولاؤه محصوراً في العراق، الوطن القادر على احتواء كل مكوناته الطائفية والإثنية، ودمجهم في هوية وطنية تضمن العدالة للجميع، دون أن يتحول شعبه إلى طبقتين، أولاهما أقلية فاحشة الثراء، والثانية ملايين الجماهير من المسحوقين، في بلد بلغت ميزانيته أرقاماً فلكية، تتجاوز ميزانيات أكثر من أربعة أقطار عربية، يعيش مواطنوها ظروفاً أفضل من تلك التي يعيش فيها العراقي، الذي قدم تضحيات تفوق ما قدمه أي مواطن عربي.
تعودت أن لاأكتب عن العراق، ففي المدى من "كفّى ووفّى" لكن مفاجأة عدم حصول عوائل الشهداء على رواتب تقاعدية، أتت متزامنة مع خطيئة رواتب البرلمانيين التي لايستحقونها، دفعتني للصراخ بكل هذا الوجع، وسلام على أرواح شهداء الحرية في العراق، ومنهم قاسم عجام.
تقاعد النواب والشهداء
[post-views]
نشر في: 11 فبراير, 2014: 09:01 م