TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "انتخاب الاحسن" والحيوان الراقي

"انتخاب الاحسن" والحيوان الراقي

نشر في: 12 فبراير, 2014: 09:01 م

وأنا اتصفح كتاب تشارلز دارون "اصل الانواع" ووصفه في ٨٠٠، صفحة لقواعد صراع البقاء وانتخاب الاصلح في تاريخ الطبيعة عبر ملايين السنين، رحت اقارن بين قواعد عمل الطبيعة، وقواعد عمل الانسان. وأعني هنا انساننا في العالم القديم، الذي اخترع العجلة وبنى الهرم والزقورة قبل ٥ آلاف عام، ثم شعر بأنه أتم ما عليه، وراح يتفرغ لفعاليات كسولة بلا مغامرات مجدية، فسبقته قافلة التقدم بأشواط. انه مدخل مناسب لمقال "خفيف" في نهاية الاسبوع.
محور نظرية النشوء والارتقاء لصاحبنا، يقوم على ان الطبيعة دقيقة جداً، في اختيار الاحسن. ومترجمو عصر النهضة العربي الاوائل، كانوا يستخدمون مفردة "انتخاب الاحسن". والانتخاب الذي تقوم به الطبيعة، يفترض انقراض صور الحياة الاقل تحسناً والادنى ملاءمة للظروف، وبقاء الاصلح الاقدر على التطور. وقبل ان اسأل نفسي: اذن مابالنا ننتخب احياناً نطيحة ومتردية لأخطر المناصب، فإن دارون (وكأي عدو للعملية السياسية) اخذ يوضح ان الطبيعة لا تكون "حرة" دوماً في اختيارها، بل هناك "تدخلات خارجية" تستدعي بقاء الاغبى وانقراض الاذكى.
نعم، ان دارون يسمي هذا الاستثناء ب"الانتخاب عبر التدخل الخارجي"، ومثاله على هذا، انقراض فصيلة كلاب ذكية وسريعة، وبقاء فصائل اقل ذكاء وأبطأ في الجري، ويعزو ذلك الى اقبال الهنود في آلاسكا القديمة على تربية النوع الغبي، مفضلين بنيته القوية المفيدة في جر العربات، على الذكاء والسرعة التي انقرضت في كثير من الاحيان او لم تتكاثر وظلت نادرة.
ان التدخلات الخارجية في قوانين دارون، تلعب دوراً خطيرا، وتؤدي الى تقديم الاغبى، على الاذكى. لكن الاثارة لا تتوقف. فمن قواعد دارون الاخرى، اختفاء بعض اعضاء الحيوان نتيجة قلة استخدامها. فالأصل ان كل من له جناحان يمكنه الطيران. لكن بعض الطيور اعتادت تناول الديدان وطأطأة الرأس فنسيت اجنحتها، مثل الدجاج. وهذا ما أرعبني اكثر وجعلني اخشى ان الانشغال بالعاطفة والانفعالات في بلداننا، يؤدي الى ضمور العقل الذي نسينا استخدامه، لا سمح الله. اذ في باب آخر يقول دارون ان الدماغ لدى جنين القرد يشبه دماغ الكلب البالغ (الاغبى). ودماغ جنين الانسان في شهره السابع، نسخة مشابهة لدماغ قرد عمره عشر سنوات. ولعله يفترض في وصف سلسلة الارتقاء ان بعض القرود كانت تستخدم عقولها بكثرة فتطورت وأصبحت انسانا. ولكن ماذا سيحصل لو انقلبت الآية، وتركنا استخدام العقل بضعة قرون؟ هل تعني يا شيخ البيولوجيا ان عقولنا يمكن ان ترجع صغيرة مثل قرد عمره سنتان، كالدجاجة التي انشغلت بالديدان فتصاغرت اجنحتها المهملة وعجزت عن الطيران؟
الله يستر، لكنني لا أشعر بالقنوط، فالعظماء يدخرون حكمتهم القصوى لخواتم كتبهم. وفي آخر صفحات "اصل الانواع" يصوغ دارون عبارة صوفية فيها دواء لليأس، ورسالتها عندي، انه رغم اخطاء تطبيق قانون "البقاء للاحسن" ورغم "تدخلات الخارج" مثل نموذج انحياز هنود آلاسكا الى الانواع الغبية، ورغم ضمور العقل في بلاد كانت حكيمة، الا ان "حرب الموت والجوع" حسب تعبيره، لابد ان تحصل على نهاية مناسبة، وتؤدي الى انقراض الاكثر غباء والاقل تطوراً، وليس تسلط الحمقى سوى تاريخ عابر، فحركة الكون قادرة على ان تكنس الحمقى.
عبارة دارون ببلاغتها ورومانسيتها مضبوطة على ايقاع التأمل الطويل لساعة الكون وآثار اقدام الصانع، يكتب: "ان أسمى هدف في هذا العالم هو نشوء الحيوانات الراقية، وهو يتحقق من حرب الطبيعة ومن الجوع والموت. ان هناك جمالاً وجلالاً في هذه النظرة عن الحياة، بقواها العديدة التي نفخها الخالق لأول مرة في عدد قليل من الصور، او في صورة واحدة. وبينما ظل هذا الكوكب يدور، كانت وما تزال صور الحياة تتطور، من مثل تلك البداية البسيطة، صور لا نهائية، غاية في الجمال وغاية في العجب".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. فاروق ابراهيم

    ملخص مقالك سيد سرمد انه طمأنه موثقه علميا للطيبين من العراقيين ان لاتقلقوا فأن قرود السياسه الحاليين الذين يلعبون بتفاصيل حياتنا شاطي باطي بقاؤهم مؤقت جدا وانهم ضد قوانين الطبيعه و الحياة وعليه فأن انقراضهم اتي لامحاله

  2. عياده الحديثي

    السلام عليكم اخ سرمد وبارك الله بك تعليقي البسيط على مقالتك الرائعة هو الا ترى دائما ان من رحم الفقر المتقع والحاجة يبرز الفلاسفةوالعلماء والاطباء وهم من يقومون ببناء المجتمعات الراقية والدول العظيمة اما التافهين فهم حتى مزابل التاريخ تلفظهم

  3. ابو سجاد

    ياخي الفاضل هذا تاريخ العراق مليء بالحمقى فاين حركة الكون لماذا لاتكنس الحمقى الذين حكموا العراق الى يومنا هذا فاحمق من ةهؤلاء لانجد في العالم كله ولنرى حركة كونك لتذهب بالاغبياء وتاتي بالاذكياء وهل من الممكن يحدث ذلك

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: صنع في العراق

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

 علي حسين عاش العلامة المرحوم محسن مهدي ينقب ويبحث في كتب التراث ويراجع النسخ المحفوظة في مكتبات العالم من حكايات ألف ليلة وليلة، ليقدم لنا نسخته المحققة من الليالي، يقول لنا فيها إنّ...
علي حسين

باليت المدى: شحذ المنجل

 ستار كاووش مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم...
ستار كاووش

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

محمد الربيعي يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة،...
د. محمد الربيعي

التكامل الاقتصادي الإقليمي كبنية مستدامة للواردات غير النفطية

ثامر الهيمص المرض الهولندي تزامنت شدته علينا بالإضافة لاحادية اقتصاديا كدولة ريعية من خلال تصدير النفط الخام مع ملف المياه وعدم الاستقرار الإقليمي. حيث الاخير عامل حاسم في شل عملية الاستثمار إجمالا حتى الاستثمار...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram