فاجأ السيد مقتدى الصدر مريديه وأعضاء تياره أولاً، والمتابعين للشأن العراقي ثانياً، بقراره الانسحاب من العمل السياسي، بعد مكاسب تياره الملحوظة في انتخابات مجالس المحافظات، التي اعتبرها الكثيرون مؤشراً على النجاح المنتظر في الانتخابات التشريعية، على حساب خصمه رئيس الوزراء نوري المالكي، ما سمح للبعض باعتبار قراره لمصلحة ولاية ثالثة للمالكي، بتعليمات محددة من طهران التي تحبذ ذلك، وتملك دالة على الصدر، رغم إعلانه أكثر من مرة عن الفصل بين العراقيين والإيرانيين، حين الحديث عن الطائفة الشيعية، التي تبوأ فيها مركزاً قيادياً مُعتبراً، استناداً الى إرث الصدرين النضالي، وتضحياتهما في مجابهتهما للحكم البعثي.
اتسمت المواقف الأخيرة للصدر بدرجة واضحة من المرونة والاعتدال، فقد حذر المالكي من الهجوم العسكري على المعتصمين في الأنبار، ولكن هذا لم يلتفت للنصيحة التي استهدفت المصلحة الوطنية، وهو يسعى لكسب المنشقين عن التيار الصدري، ليضمهم إلى العملية السياسية، ويبيح لهم حرية التصرف، ويبدو أن انسحاب الصدر المفاجئ سيخلخل المعارضة الشيعية لولاية ثالثة للمالكي، تدعمها إيران بالضغط على معارضيه، خصوصاً لجهة الموقف من الوضع السوري، كما أن إدارة أوباما تدعم ما يظهره من توجه لمحاربة الإرهاب، دون التفكير بسياساته القائمة على التنصل من تعهداته، كما فعل في أربيل، وكما في خذلانه للصحوات، التي قامت قبل سنوات بالدور الأكبر في محاربة القاعدة.
يربط كثيرون بين قرار السيد الصدر، والأداء البائس لبعض المنتسبين لتياره، خصوصاً في مسألة تقاعد النواب، وسعيه لعدم تحمل خطيئتهم التي استفزت أنصاره في عدة محافظات، فآثر النأي بصورته وتاريخ عائلته عن هذا الجو الموبوء، مُعاقباً من تخلى عن الثوابت الأخلاقية للصدريين، أو حاول ركوب شعبيتهم لتحقيق مكاسب شخصية رخيصة، ويستحق الصدر التحية، إن كانت تلك هي الأسباب الحقيقية لقراره، الذي يعني إسقاط حصن كان المنتفعون يتدارون خلف أبوابه، ويتمسحون بسيرة شهدائه، ولعلها تكون خطوة في الاتجاه الصحيح، المتمثل بفصل الدين عن الدولة، ما يُخمد الحمى الطائفية التي تكفلت أحزاب الإسلام السياسي، سُنِّيةً كانت أم شيعية بالترويج لها، باعتبارها الحامية للطائفة والدين، باعتبار أن الآخرين خارجون عليه ومرتدون، وكل ذلك بحسب البورصة السياسية.
خلط اعلان الصدر جميع الأوراق، وربما حتى بعد خطابه التوضيحي، سنحتاج للتريث إن شئنا معرفة الأثر الناجم عن القرار، بالنسبة لمسار العملية السياسية، أو نتائج الانتخابات، أو مصير المالكي كرئيس وزراء للمرة الثالثة، غير أن المهم أن قرار الاعتزال كان صدمة لكل العراقيين، وكثير منهم بدأ الاقتناع بطروحاته، وراهن على مقدرته على لجم التطرف في بعض زوايا البيت الشيعي، خصوصاً عند أنصار المالكي في حزب الدعوة، الذين يظنون اليوم أن كتلة برلمانية يعتد بها قد توارت، وأن طريق الولاية الثالثة مفروشة بالورد، وأنه سيحكم العراق كما حكمه صدام، وإن بعناوين خالية من المضمون، حول الديمقراطية والمشاركة في السلطة، وإذا كان الصدر أبرز العديد من المواقف الأخلاقية والروحانية، مُبتعداً عن قذارات السياسة وانتهازيتها السائدة اليوم، فإننا نظن أن الحل لهكذا واقع يكون بمزيد من الانغماس في السياسة بهدف تصحيح المسار، صحيح أن قرار الاعتزال يبدو روحياً بالنسبة لرجل الدين مقتدى، غير أن الصحيح أيضاً أن قراره كسياسي فاعل، أربك الملايين من مؤيديه الذين يعلقون آمالهم عليه.
يجمع السيد مقتدى تحت عباءته السياسي والديني، وهو كسياسي مطالب بالعدول عن قراره، أما كرجل دين ووصي على إرث عائلته، فإننا نتفهم قراره على أنه قرار فردي، يهدف صاحبه الى الحفاظ على طهارته، وبديهي أن ذلك بعيد عن عوالم السياسة ودهاليزها .
الصدر بين الدين والسياسة
[post-views]
نشر في: 19 فبراير, 2014: 09:01 م