" لن أكون بينكملأن ريشةً من عصفور في اللطيف الربيعستُكلّل رأسيوشجر البرد سيكوينيوامرأة باقية بعيداً ستبكينيوبكاؤها كحياتي جميل" رحل أنسي الحاج الأنقى بين شعراء جيله، على حد وصف أدونيس، مخلّفاً ثروة بدأها بديوان لن الذي افتتح به باب القصيدة
" لن أكون بينكم
لأن ريشةً من عصفور في اللطيف الربيع
ستُكلّل رأسي
وشجر البرد سيكويني
وامرأة باقية بعيداً ستبكيني
وبكاؤها كحياتي جميل"
رحل أنسي الحاج الأنقى بين شعراء جيله، على حد وصف أدونيس، مخلّفاً ثروة بدأها بديوان لن الذي افتتح به باب القصيدة النثرية، وأتـبعه بالرأس المقطوع، وماضي الأيام الآتية، وماذا صنعتَ بالذهب ماذا فعلت بالوردة، والرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع، وخواتم، وكلمات، هرب برأسه إلى حيث يعثر على النوم اللطيف، لكنه ترك لنا رأساً مكلَّلاً بغار أسراره وكلماته.
" قاتلَ الوقتَ حتّى قتله
لكنّ الوقت قبل أنْ يموت
ترك له الحُبّ"
أنسي الحاج بدون أي شكوك، هو أحد أعمدة قصيدة النثر والتحديث، منذ خط أول حروف قصائده ، وحتى آخر ما أبدعه في الأخبار اللبنانية، وهو أحد رواد الصحافة الثقافية في العالم العربي، ساهم العام 1957 مع يوسف الخال وأدونيس في تأسيس مجلة "شعر"، وعام 1960 أصدر في منشوراتها ديوانه الأول "لن"، وهو أول مجموعة قصائد نثر في اللغة العربية، فضلا عن تأسيس القسم الثقافي المميز بجريدة النهار اللبنانية.
في مقدمته لديوانه الأول يقول " نكتب لنقطع مرحلة، وما نكتبه يطوى، يحرق، ما لم نكتبه ولم نعرفه ولم نغص بعد فيه، هو الهم.
يجب أن أقول أيضا إن قصيدة النثر- وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطيا- عمل شاعر ملعون، الملعون في جسده ووجدانه الملعون يضيق بعالم نقي، إنه لا يضطجع على إرث الماضي، إنه غاز، وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أي كان إلى الحرية، إنه يستبيح كل المحرمات ليتحرر، لكن قصيدة "النثر" التي هي نتاج ملاعين، لا تنحصر بهم، أهميتها أنها تتسع لجميع الآخرين، بين مبارك ومعافى، الجميع يعبرون على ظهر ملعون.نحن في زمن السرطان، هذا ما أقوله ويضحك الجميع، نحن في زمن السرطان هنا، وفي الداخل، الفن إما يجاري أو يموت، لقد جارى والمصابون هم الذين خلقوا عالم الشعر الجديد، حين نقول رمبو نشير إلى عائلة من المرضى، قصيدة "النثر بنت هذه العائلة.
نحن في زمن السرطان، نثراً وشعراً وكل شيء، قصيدة النثر خليقة هذا الزمن، حليفته، ومصيره". ظلّ هاجس أُنسي كسر القوالب، وإعادة اختراع اللغة يومياً وهو إن كان قد توقّف طويلاً عن الشعر، فإنه في كل ما كتب بعد ذلك كان وفياً للغته الخاصة والصدامية مع القوالب الجاهزة، حتّى مقالته الأخيرة قبل أسابيع.
لم يكن يسارياً بالمعنى المتعارف عليه، كان بالأحرى فوضويّاً متمرّداً في اللغة والحياة، ومتمسّكاً بنظرته الخاصة إلى العالم، وهذا ما كرّسه مبدعاً، نصوصه متفردة، يضيق بها اليمين التقليدي، وينتفض لبعض مواقفه اليسار التقدمي الذي سبق الجميع إلى تبنّيه والاحتفاء به.
رغم أن الراحل محمد الماغوط سبق أنسي إلى كتابة قصيدة النثر، فإن ريادتها تكرست له، خصوصاً بعد مقدمة ديوانه الأول التي عززت هذا الانطباع ، وقد ظلّ نصّه الأكبر بين نصوص قصيدة النثر، وإذ يجب الاعتراف بأن مكانته لا تنحصر في أنه هزّ عرش الأوزان، فإنها تستند أيضاً إلى الصيغ والتراكيب العربية التي تلاعب فيها بالموروث التقليدي، وظل أثره مرتبطاً ببداياته التي أسس فيها لقصيدة النثر، متعاليا عن أي تبريرات، وكأن لسان حاله يقول هذه نصوصي، تمعنوا بها فهي الأصل وأنا مجرد ظلّ لها، وهو من سيبقى موقعه، في قصيدة النثر، محفوظاً ومدروساً وريادياً، وسيظل من الكتّاب القلائل الذين عبروا الأجيال في تأثيرهم الأدبي القوي.
صحيح أن شعر أنسي الحاج يستحق الكثير من الكتابة والتقويم النقديّ، إلا أنّ كتابه النثريّ "خواتم" يستحق ضوءاً أكبر، إن أقررنا أنّ أفق الكتابة الراهنة يؤكد أنّ خيارات أنسي كانت الأصوب والأكثر واقعية بين أبناء جيله، وأنّ النثر هو غد القصيدة والحياة بأسرها، وأنّ ما ينشره جيل الفايسبوك والانتفاضات، هو مستقبل الكتابة التي أرادها أنسي وكرّس لها كل إبداعاته.
ظلّ أمينا لقصيدة النثر وهو المدرك أن كل أدوات النثر حين تدخل قصيدته تصبح أدوات تعمل لصالح الشعر، وهو من ذهب إلي الشعر من طريق جديد ، وبعكس كل الشعراء دخل إلى القصيدة مسلحاً بأدوات النثر وليس بأدوات الشعر التي نعرفها ، دخل وهو يثق تمام الثقة في النثر أن يمنحه شعراً خالصاً دون دعم أو مساعدة من أدوات الشعر التي نعرفها.
منذ حرفه الأول في الستينات ظل أنسي أسير ضميره، بحرية كاملة، فأتت كتاباته شهادة حيّة للتاريخ، ومادة إلهام لأجيال من الشعراء الشباب، ومن نصوصه الأخيرة المعبرة عن موقفه الحقيقي مما يجري في عالمنا يقول الحاج:
ماذا يقال لكِ يا سوريا؟
لا يقال للفاجعة، لأودية الصراخ والجنون،
لا يقال شيء…
عندما يصبح الدواء داءً، ما الذي يعود يشفي؟
عندما ينقلب المركب في العاصفة، على مَن يُطْرَح الصوت
والقريبُ عدوّ والبعيدُ بعيد؟
أنقذكِ الله يا سوريا!
رَمَتكِ العينُ وقد رمتنا قبلكِ، وعندك الخبر اليقين…
تَعلّمي ممّا اختبرتِ، عندنا وعندكِ، أسرعي يا سوريا!
ضُرِبْنا في فلسطين، ضُربنا في لبنان، ضُربنا في العراق، واليوم نُضْرَب في سوريا.
جُوِّفْنا لحماً وعظماً.
أين أنتِ؟
استيقظي يا سوريا.
لم ينل أية جائزة، لأنه لم يلهث وراءها ،أي لم يتقلّب من أجلها. بل بقي مرتكناً إلى عالم الشعر والقراءة، كان يدرك فضيلة الصمت، لكنه دائماً يعود بكلام واضح وصريح.
رحل جسد أُنسي الحاج بعد 77 عاماً من إبداع عقله، لكن ذكراه ستظل ورداً يفوح عبيراً في حدائق الشعراء.