يكتب دستويفسكي رسائله إلى أخيه بشيء من الخصوصية ، حيث يمكن للقارئ من خلالها أن يتعرف على جانب هام من وقائع حياة هذا المبدع الكبير الذي استطاع عبر أعماله الروائية أن ينفذ إلى عمق النفس البشرية ، ويقدم إضاءات تحليلية هامة حولها . في رسائله هذه يبيّن دس
يكتب دستويفسكي رسائله إلى أخيه بشيء من الخصوصية ، حيث يمكن للقارئ من خلالها أن يتعرف على جانب هام من وقائع حياة هذا المبدع الكبير الذي استطاع عبر أعماله الروائية أن ينفذ إلى عمق النفس البشرية ، ويقدم إضاءات تحليلية هامة حولها .
في رسائله هذه يبيّن دستويفسكي طبيعة العلاقة بين أشكال المعاناة الشخصية ، وبين أصالة الإبداع ، وهي رسائل كتبها إلى أخيه وحرص أن تكون له بشكل خاص ، لذلك كتب فيها مايختلج في نفسه بشكل مباشر ، وهنا تكمن أهمية هذه الرسائل إذا أنها تفصح عن جوانب خفية من حياة هذا المبدع.
يمكن ملاحظة أن معظم مراحل العباقرة والنوابغ كانت معاناة في معاناة , والمعاناة تقترن بالإبداع في كافة ألوانه وأشكاله .
تبيّن لنا قراءة هذه الرسائل أن المعاناة يمكن لها أن تصنع شخصية الإنسان المتميّز ، وتجعله يسعى إلى التفوق والإبداع وهو ينظلق من قاعدة معاناته .
إذا نظرنا إلى سير حياة المبدعين ستجلو لنا بعض الحقائق ، فقد كان أبو لينير - صاحب ذاك المسرح المذهل - يعاني طيلة حياته من شعوره بأنه ابن غير شرعي , وكان كافكا - مبدع رواية المسخ - لايستطيع أن يتخلص من شعوره الأعمق بأنه حشرة كبيرة غير مرغوب فيها , ولم يتلق رامبو - مبدع تلك القصائد الرائعة - قبلة حب حقيقية من شخص , وعانى بودلير الأهوال من زواج أمه , وأمضى المركيز دي ساد خمسا وعشرين سنة في السجن , وانتهى سويفت إلى الوهن العقلي أواخر حياته , وانتهى نيتشه بالجنون , ويقول سارتر : كنتُ بمنتهى الصدق أرى جامعا مكان معمل , وكان عنوان مسرحية يزرع الرعب في طريقي . يقول سترندبرغ : إنني أجد بهجة الحياة في صراعاتها الأكثر حدة .
يعبر دستويفسكي عن معاناته في رسائل يكتبها إلى أخيه شارحاً تفاصيل معاناته اليومية التي يعيشها ، ففي إحدى هذه الرسائل يكتب : لا أملك كوبيكا واحدا لكتابة رسالة .
لقد بلغ الفقر بالسيد دستويفسكي إلى أقصى مراحله يقول : لدي مشروع أن القد عقلي .
بقوة عظمى يستخدم الكتابة للتعبير عن نفسه إذ لا يملك غيرها , إنه يرمز إلى
الإنسان الفقير , بل هو لسان حالهم ورسولهم , يروي تفاصيل حياتهم عندما يروي وقائع حياته اليومية .
لا شك أن الكثيرين لا يملكون قيمة قدح من شاي ، أو قيمة سيجارة واحدة و يعانون الفقر وأمراض سوء التغذية وفقر الدم مثل دستويفسكي نفسه , وهو من هذا المنطلق يتضامن معهم ويطرح مآسيهم , ومن هنا فإنه يكتب الجملة الصادقة إلى أخيه في إحدى هذه الرسائل التي يقول فيها : وما تبقى لي سوى هذا القلب والدم اللحم , هذا الذي يعاني ويشفق ويتذكر ويبدع الحياة رغم كل شيء .
لم أشعر بها مطلقا بهذه الخواص الملأى بالقسوة والغنى الفكري من قبل كما أشعر بها الآن .
لا شيء يفسد على المبدع إبداعه سوى أشكال الرفاهية التي تقتل فيه روح الإبداع , ويمكن ملاحظة أن الإنسان بصورة شبه عامة تخلى عن شفافيته في زحمة مطاردته للحياة والرفاهية بعد ثورة الانفتاح الاقتصادي .
لقد خسر هذا الإنسان الشيء الذي لاشيء يعوضه على الإطلاق وهو في أثناء جريه يتحسس مرارة هذه الخسارة الفادحة .
يعبر دستويفسكي عن مشاعر القوة التي تنتابه ، وهو يتعرض لأشكال المعاناة ، فيكتب : نعم إنهم منعوني من الكتابة , إنني أفضّل أن أ ُسجن خمسة عشر عاما شرط أن أحتفظ بقلمي في يدي .. إنني لم أفقد الأمل .
ويختتم خوفه : أنا مسكون بالخوف من أن يُصاب حبي الأول للعمل بالفتور قبل انطلاقه على الورق .
لقد استطاع فيودور دستويسفسكي أن يهدي العالم إبداعات أكثر من أغنى رجل من أبناء عصره .
إن كل من يحمل القلم , يحمل في قلبه ألما يسعى بالقلم أن يعبر عن هذا الألم ، ويبقى يكتب إلى أن يموت وفي قلبه الكلمة التي لم يتمكن من قولها والتي تخلصه من ألمه , وأما إذا اهتدى إلى الكلمة المضبوطة المعبرة فإنه سيقولها ويبقى قلمه منطفئا إلى أن ينطفئ عقب انطفاء قلمه وفي لحظات الاحتضار الأخيرة سيكتشف بأن تلك الكلمة خانته ولم تكن مضبوطة بالمرة .
استطاع دستويفسكي أن ينطلق من كل تلك المعاناة التي كان يعيشها ، ومن كل تلك الوخزات الروحية التي كانت تصيبه ، ويقدم من كل ذلك عصارة إبداع أصيل.