الشعراء مصدر إزعاج كبير للعالم.
مزعجون وهم أحياء ومزعجون عندما يموتون.
في الليلة التي سبقت رحيل أُنسي الحاج كنت كئيباً بشكل لم أعهده من قبل.
كآبة من يشهد موت شاعر في لحظة تألقه.
لم يكن أنسي الحاج شاعراً جماهيرياً وهو، نفسه، لم يشأ أن يكون شاعراً جماهيرياً. ولم يقرر أن يكون زاهداً بالنجومية وبحب الجمهور والراكض وراء المعجبين. نعم، له معجبون كثيرون لكنهم، هم، من يركضون وراء قصائده وكتاباته وخواتمه.
في الليلة التي سبقت رحيل أنسي كانت روحي برتقالة جافة تتقشر تلقائياً.
هرعت إلى الفيسبوك أبحث عمن هو جدير ببرتقالتي الجافة وهي تتقشر ذاتياً فلم أجد غير شاكر لعيبي جديراً بتلك البرتقالة الكئيبة.
سألني: ما بك؟ قلت: أنا مخنووووووق!. قال فضفض. أنا صديقك. قلت: حقاً، الصداقة وطن.
ثم تعللت بإبداء أسباب واهية لكآبتي، لأن الأسباب الحقيقية للكآبة غامضة وقصيّة، في مكان مجهول لا يدركها الكئيب ولا الطبيب.
تحملني شاكر برجولة الصداقة رغم أنه لم يكن بأحسن حالاً منّي.
في اليوم التالي، قبيل الظهر، عرفت برحيل أنسي.
رحت أبحث عن فيروز. عن أغنية محددة.. أغنية كتبها أنسي لفيروز بأسلوب ماكر وخبيث.
تقول الأغنية:
"يا ريت منن مديتن ايداي وسرقتك أيه أيه لأنك إلن رجعتن ايداي و تركتك
حبيبي ندهتك خلصنى من الليل و يا ريت نرجع إلنا أشياء نحبا و عنا بيت
صدقني لو بقدر أتحمل عذاب الأشياء كلا ما كنت فليت
و لا كنت حرقتا حياتي و حرقتك
إذا رجعت بجن و إن تركتك بشقى لا قدرانة فل و لا قدرانة أبقى
شو بكره يا حياتي لما بشوفا عندك يا بتحرمني منها يا بسرقها سرقا
و شو قالوا يا عمر حلو و ما دقتك".
وكما رأيتم: وضع أنسي الأغنية على لسان فيروز وكأنه ينتزع اعترافاً أو وصية. كان بانتظار أن يسمعها بصوتها وهي تخاطبه.. مؤنث يخاطب مذكراً. الأغنية له لا لفيروز.
شاعر قصيدة النثر، المجدد، لم يتنازل في الكلمات العامية عن شعره لأنه يكتب أغنية.. الحقيقة هي أنه لا يستطيع إلا البقاء في سياقه اللغوي حتى لو كتب أغنية بالعامية.
الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع تتأمل المشهد عبر قصيدة بهذا العنوان. تتأمل وتبكي على أشياء كثيرة فجّرها رحيل الشاعر الذي لم يتردد في إعلان حبّه.. هو لا يحب أغانيها، حسب، بل يحبها هي.
أنتِ الصغيرة كنُقطة الذهب
تفكّين السّحر الأسود
أنتِ السائغـةُ اللـّيـنـة تشابكتْ يداكِ مع الحُبّ
وكُلّ كلمةٍ تقولينها تتكاثف في مجموع الرّياح.
أنتِ الخفيفةُ كريش النعام لا تقولين تعال،
ولكنْ كُلّما صادَفْتُكِ كُلَّ لحظةٍ أعودُ إليكِ بعد غيابٍ طويل.
أنتِ البسيطةُ تبهرين الحكمة
العالمُ تحت نظركِ سنابل وشَجَرُ ماء
والحياةُ حياةٌ والفضاءُ عربات من الهدايا".
(.........)
أُقسِمُ أنْ أحبّكِ دون أن أعرف كم أُحبّكِ ".
على مشارف الثمانين تتأمل الرسولة حياتها وهي على قمة الكون.. وتستعيد حياتها في قصيدة حرفاً حرفاً، وصورة صورة، وقبلة قبلة، وهي تبكي وحيدة.
الشعراء مزعجون.
الشعراء قساة، أيضاً، وإلا لم يرحل أنسي ليترك الرسولة وحيدة تبكي! أما كان عليه ألا يرحل من أجلها؟
الشعراء يرحلون ولا يموتون، وها هو أنسي الحاج يولد ثانية في كلماته القديمة وفي كلماتنا، في أشواقنا المتجددة له وفي استعادة محبيه للحظة المزمنة التي صنعها بشعره.
الرسولة بشعرها الطويل تبكي وحدها
[post-views]
نشر في: 24 فبراير, 2014: 09:01 م