القليل والقليل جداً من فناني المسرح من يريد الإبقاء على حالة الفني ولا يعمل على تطوير معارفه وقدراته وتوسيع مساحات وميادين عمله، والفنان الحقيقي هو ذلك الذي يتطلع إلى التجديد والذي يعمل على الدوام للتقدم إلى أمام ولا يبقى يراوح في مكانه،ففي المراوحة جمود وفي الجمود موت.
هنا أضرب مثالاً لأولئك الفنانين المسرحيين الذين لا يريدون التوقف عند حد في مسيرتهم الفنية ولا يريدون التوقف عند ما وصلوا إليه من إبداع وشهرة عالمية ،انه المخرج العالمي الشهير (بيتر بروك) الذي يعرفه جميع مسرحيي العراق ،فقد مر بثلاث مراحل تطويرية في حياته الفنية: الأولى من 1945 إلى 1963، وهي بدايات عمله مخرجاً مسرحياً، حيث مارس سياقات وأساليب متعددة في معالجاته وكان في سن الثانية والعشرين عندما اختير مخرجاً للأوبرا في دار الأوبرا الملكية (كوفنت غارون) بلندن، وعندما اصبح (بروك) في الثانية والثلاثين كانت حصيلته الإخراجية حوالي أربعين إنتاجا يتراوح بين مسرحيات شكسبير وأوبرات .وكان ابرزها مسرحية (جهد الحب الضائع) لشكسبير وفيها ركز على النواحي البصرية أكثر من السمعية مسرح الصورة، (سالومي) لشتراوس والتي صمم ديكوراتها الرسام السوريالي الشهير (سلفادور دالي)، و(تيثوس اندرونيكوس) لشكسبير حيث العنف المفرط وشارك في تمثيلها كل من الممثل الكبير (لورنس اوليفيه) والممثلة الرقيقة (فيفيان لي)، و(الملك لير) لشكسبير التي أسبغ عليها لمسات اللامعقول، ولم يقف (بروك) عند الكلاسيكيات في تلك المرحلة بل خاض تجارب مع الدراما الحديثة لمؤلفين طليعيين أمثال (كوكتو وآنوي وجينيه ودورنمان)، وواضح بأنه في تلك المرحلة كان يركز على اكتشاف المتضادات في المسرحيات التي يخرجها والتأكيد على الصورة ،ولذلك سماها (مرحلة الصور أو الرؤى).
المرحلة الثانية هي مرحلة البحث والتعلم والإنضاج وخلالها حاول ان يبتعد عن الصيغ المسرحية المهيمنة على الحقل المسرحي في حينها واعتبرها قيوداً للإبداع ،كما انه راح يبحث عن لغة مسرحية جديدة تعكس الواقع المعاصر المعقد. وقد أنضجت هذه المرحلة إنتاجات مسرحية متفردة وسماها (مسرح الزعزعة) توّجها بذلك العمل التقليدي/التجريبي (هاملت) التي أخرجها وفق تقنيات (مسرح القسوة) لآرثو بالتعاون مع الناقد (مارويتز) حيث قاما بمونتاج للمسرحية واكتفيا بالمشاهد التي يمكن تطبيق تلك التقنيات (وخصوصاً الطقسية) عليها، وكانا يريدان الكشف عن مدى قسوة العالم والمجتمع المتحضر تجاه الإنسان المكافح من أجل البقاء، وبعد ذلك أخرج مسرحية بيتر فايس عن الثورة الفرنسية (مارا-صاد) بالصيغة الاحتفالية التي نفذها الممثلون وهم يمثلون نزلاء مصحة (شكاتروتون) للأمراض النفسية والعقلية، وفي عام 1966 وإحساساً منه بضرورة المساهمة في حركة الاحتجاج على الحرب في فيتنام دعا أعضاء فرقة شكسبير لارتجال مسرحية وثائقية تدين تلك الحرب، فكانت مسرحيته (يو أس)، وكان من حصيلة المرحلة الثانية تركيزه على أهمية العمل التعاوني الطاقمي في الفرقة المسرحية واعتماده على إبداع الممثل اكثر من اعتماده على رؤيته الإخراجية وقام بتطبيق هذا المبدأ الفني عند إخراجه لمسرحية شكسبير (حلم ليلة صيف) التي حول فيها مكان الأحداث من غابة إلى ما يشبه حلبة السيرك حيث راح الممثلون الذين مثلوا (العشاق الأربعة) وكذلك ممثلو أدوار (الجن) يمارسون الألعاب البهلوانية والأرجحة على (الترابيز).
وتمثلت المرحلة الثالثة في تأسيسه (المركز العالمي للبحث المسرحي) في باريس عام 1970، وفي هذه المرحلة أراد (بروك) أن يؤكد أن المسرح فن شمولي لا يخص بلدا معينا أو أمة معينة ،ولذلك قام بإنتاج (مؤتمر الطيور) للفيلسوف التركي (العطار). وتتعرض المسرحية إلى مجموعة من الطيور تبحث عن آلهتها. وأعد بروك وأخرج (المهابهاراتا) عام 1985 وهي ملحمة دينية سنسكريتية، وشارك في تمثيل المعرضين ممثلون من جنسيات مختلفة وكان في ذهنه خلق لغة مسرحية أممية ونموذج درامي يجمع ماهو سردي وتعددي ونفسي مع ماهو شعري ورمزي وروحي وماهو جسدي،و ما هو اجتماعي وما هو سياسي مستكشفاً مضامين وأشكال المسرح الشعبي بنظرة انتقائية ببساطة جمالية وعلاقات متحولة، وظل (بروك) مواصلاً نهجه في التداخل الثقافي للشعوب ومتجولاً في مختلف البلدان شرقاً وغرباً، ولا ندري إن كان سيمر ذلك المبدع المسرحي بمرحلة رابعة أم لا.
كيف يطوّر الفنان المسرحي عمله؟
[post-views]
نشر في: 24 فبراير, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...