2-3
كانت قد مرت على زيارتي الأخيرة للقاهرة ست سنوات، وما حصل من تبدل لـ"مصر أم الدنيا" القاهرة وعلى المصريين، كما يبدو كبير جداً، طبعاً وجود آراء مختلفة ومتباينة لوصف الوضع الحالي في مصر (أو في أي بلد)، هو أمر طبيعي، حالة صحية في الأحرى، فالتنوع هو أساس الطبيعة، الغذاء الذي تتغذى منه الديموقراطيات، لكن ما هو من غير الطبيعي، هو عدم تبادل الآراء، عدم الإصغاء للآخر، أو القول، إن أي رأي مختلف هو دخيل، مساس بـ"الثوابت"، (مع العلم أن لا ثابت غير الحرية والديموقراطية واحترام الأقليات وحقوق الإنسان)، كأن الجماعات، أو التنظيمات، أو التيارات، تعيش بينها فقط، لا شأن لها بالأخرى. التنوع الذي هو ميزة، نعمة حقيقية، مناسبة للتفاعل والإبداع، يتحول هنا إلى مناسبة للقطيعة، إذا لا يقود إلى العراك والصدام. من يتجول في القاهرة داوون تاوون، سيرى إلى جانب انتشار عشوائيات الباعة في الشوارع والطرق، معارك بالأيدي عنيفة أحياناً. "الناس مشحونة بالغضب، تحتاج مناسبة للتنفيس"، يقول لي سائق معهد غوته في القاهرة، رغم أنه على عكس سائقي التاكسي وأصحاب الأعمال الحرة الأخرى، لم يتضرر من غياب الدولة والفوضى التي سادت بعد الانتفاضات المصرية منذ 25 يناير 2011. المصري المعروف بصبره، بتصرفه المسالم، (من هذا جاء ميلهم لتدخين الحشيش ورواية النكات)، يلغي الكليشيهة تلك التي شاعت عنه في عموم الوطني العربي، ويأخذ مكان العراقي، "الميّال للعنف"، كما تقول كليشهية أخرى. ولكن ماذا حدث للناس فجأة؟
عندما اندلعت الانتفاضة المصرية التي قادتها في الأيام الأولى أجيال شابة من الطبقة الوسطى - المدينية، تحدث المراقبون عن الصدمة الصاعقة التي شكلها ما حدث للنظام التسلطي وأركانه فقط. لم يتحدث أحد عن الصدمة الأكبر التي حدثت عند الناس أولاً، التي لم تكن وراء الارتباك السياسي والاضطراب في الرؤية حول طبيعة ما حدث بالنسبة لأجهزة الدولة وقوى المعارضة الشكلية وحسب، بل كانت أيضاً وراء الارتباك وضبابية الرؤية في كيفية التعامل مع الحدث الثوري ونتائجه، حتى بين الشباب أولئك الذين قادوا الثورة في ميدان التحرير. فمن ناحية الدولة، كان التفكير السائد، خاصة في ظل الوزارتين الأولى والثانية لأحمد شفيق، هو الاحتواء السياسي وتحقيق التهدئة السوسيو – اجتماعية أولاً، ثم بثّ وتوسيع التناقض بين الطلائع الشبابية وبين الكتل الجيلية الأكبر سناً، وبين الفئات الشعبية المستضعفة، وبين الطبقة الوسطى – المدينية في القاهرة والإسكندرية ومدن أخرى مشابهة. أما من ناحية طلائع الثورة الشبابية فرأوا في انضمام إخوان المسلمين والسلفيين لهم في ساحة التحرير، هو دليل على قوة الأفكار التي طرحوها، وأن الجميع موحدون بشعار الحرية، أو معنيون بتأسيس دولة مدنية حديثة تُحترم فيها حقوق المواطن، وفيها شيء من عدالة توزيع الثروات. أما الجيش الذي كان هدف الانتفاضة الأولى، لأن الإطاحة بزمرة"مبارك"، كان من بين ما يعني الإطاحة بسلطته، عرف أنها مسألة وقت، فعندما تغيب الدولة، عندما تعمّ الفوضى، سيستنجد الناس فيه.
القوى الثلاث هذه، الدولة والجيش من جهة، والشباب الثوري من جهة، والإخوان من الجانب الآخر، إذا كانوا قد اتفقوا على شيء، فإنهم اتفقوا، على أنها مسألة وقت وسيذعن الطرف الآخر، التصور السلطوي تأسس على أننا إزاء تمرد سلطوي شبابي يمكن احتواؤه واستيعابه وإعادة النظام مجدداً مع تعديلات جزئية، الشباب ظنوا، أنهم برفعهم سقف مطالبهم سيضعون الجميع أمام الأمر الواقع وإرادة التغيير، وإخوان المسلمين، الذين دخلوا الانتفاضة متأخرين، فكروا أنها الفرصة السانحة لتأسيس دولة الله على الأرض. تلك هي مرحلة الانتقال، تجر معها ما تجر من تصورات وأوهام، التي تقول، أنا وحدي من يعرف الطريق، وأن الآخر مضلل، زائد على الحاجة، جسم غريب، وهي الأوهام هذه التي تصب الزيت في نار تناقضات قديمة في مصر، أبعد من الثلاثين سنة من حقبة حكم مبارك التي اتسمت بالركود.
في تبدّل القاهرة وأحوال ناسها
[post-views]
نشر في: 25 فبراير, 2014: 09:01 م