لمناسبة الذكرى الثانية عشرة لجريمة اغتيال الشاعر محمود البريكان أقام التجمع الثقافي الحديث في البصرة جلسة استذكار واحتفاء صباحيّة بتجربة هذا الشاعر الذي يُعَدّ أحد أعمدة التحديث في الشعر العراقي، وواحداً من أهمّ رموزه في الحضور والتأثير.  &

لمناسبة الذكرى الثانية عشرة لجريمة اغتيال الشاعر محمود البريكان أقام التجمع الثقافي الحديث في البصرة جلسة استذكار واحتفاء صباحيّة بتجربة هذا الشاعر الذي يُعَدّ أحد أعمدة التحديث في الشعر العراقي، وواحداً من أهمّ رموزه في الحضور والتأثير.
    تضمنت الجلسة التي أقيمت في الثامن والعشرين من شباط الماضي في مقهى الأدباء بالبصرة محاضرة للفنان الناقد شاكر حمد بعنوان (الرمز التشكيليّ في شعر محمود البريكان).
    وفي كلمته التي قدّم بها المحاضر إلى جمهور غصّ به المقهى قال القاص الأستاذ محمّد خضيّر إنّ البريكان الشاعر تكفيه بضع قصائد لتدلل على مكانته المرموقة في ريادة الشعرية العراقية الحديثة رغم أنه لم يترك وراءه إلاّ عدداً ضئيلاً من قصائد لم تُجمع في كتاب إلاّ بعد رحيله بمأساة على يد طائشة مجرمة، مضيفاً أن البريكان كان قليل الاختلاط، قليل الانفعال بالحوادث الأخيرة من تاريخ العراق التي عاشها، وقد آثر الانسحاب من ذلك التاريخ المضطرب متفرغاً لكتابة الشعر برؤية فلسفية كما لو أنه يعيش خارج التاريخ، ومبيناً أن البريكان سبق غيره في ابتكار الإيقاع التدويريّ في عدد من قصائده، مؤكّداً أنه كتب المطولات الشعريّة قبل آخرين لكن ريادتها لم تُنسب إليه بسبب تأخره في نشرها، كاشفاً عن بعض أهم سمات قصائده التي تتميّز بمعمار مصمّم واضح المعالم، ومشيراً إلى أن عناصر قصيدته تتحرك على سطح فسيح ممتدّ امتداد الصحراء، وهذا النزوع الفني جعل البريكان أقرب ما يكون إلى شاعر صحراء بالقياس إلى السياب الذي كان شاعر ريفٍ فمدينة.
      استهل الفنان شاكر حمد محاضرته الموسومة (الرمز التشكيليّ في شعر البريكان)- وهي فصل من كتاب له عن الشاعر لم يطبع بعد- بالقول إن "البريكان هو فنان الرؤية التشكيليّة شعراً بكلّ أبعادها"، مقرّراً أن الرمز التشكيلي يقوم على "الاستعارة والتشبيه والتجريد واللغة"، وأنّ قيمته تتجلّى في "رفد الصورة الشعرية بالكتل والمساحات الجمالية..". ثمّ عكف الفنان حمد على استعراض عناصر اللغة التشكيليّة من خط، ولون، وشكل، وكتلة، وفضاء متقصّياً تجلياتها ومظاهرها وآثارها في مقاطع متعددة من قصائد البريكان، بتفصيل مستفيض كان ضرورياً لتأكيد حضور قوى التشكيل في تلكم القصائد ودعمها قوى الشعر بعناصر حسيّة، وترصين طاقاتها وقدراتها على التأثير والجذب. وذهب الفنان حمد أبعد في تأكيد استثمار البريكان العناصر التشكيليّة في فضاءات قصائده استثماراً جعل عمله أقرب إلى عمل رسّام؛ ففي قصيدته (حوادث) التي ترسم خط الاستدلال لدخوله في التشكيل، والكلام لحمد، يتبدّى التخطيط الأوليّ للقصيدة على شكل (سكتش) تشكيليّ.
    اتسمت محاضرة الفنان شاكر حمد بالسعة والغنى والشمول واحتوت مادة متشعبة استعرضت لا العناصر التشكيلية التي تحضر بوفرة في أعمال البريكان، ولكن مزايا هذه العناصر في تلوين رؤى الشاعر الفكريّة العميقة التي ما كان ممكناً ظهورها بهذا الشكل من السطوع والقدرة على الجذب وضمان تحقيقها استجابة جمالية مثاليّة لو لم تستند تلكم الرؤى إلى ظهير تشكيلي عياني. وإذن فعنوان محاضرة الفنان حمد- الرمز التشكيلي في شعر البريكان- هو في الحقيقة أضيق من أن يصف محاضرته المستفيضة المستقصيّة الشاقة، لأن الرمز التشكيلي، استعارة كان أم تشبيهاً لن يكون، وحده، إلاّ عنصراً مفرداً قائماً على استبدال شيء بآخر والإنابة عنه، أو الحلول محلّه مهما تكن طاقته في الإيحاء والإشعاع. فما يُقرّب نصّاً شعرياً إلى التشكيل ليس الرمز المفرد، ولكن تحوّل كتابة هذا النص إلى كتابة تصويريّة تشتد فيها فاعلية العين في رسم الملامح والأجواء والأمكنة داخل مشاهد مرئية بعناصر مكتملة، وذلك ما نراه في النصّ البريكانيّ الذي يحضر فيه التمثيل بقوّة ويتحقق فيه هذا التوازن المثالي بين الذهني والمرئي.