يجمع الرئيس فلاديمير بوتن في شخصيته، بين قيصر يملك تفويضاً إلهياً بحكم مطلق لإرادته، وتمتد سلطته إلى حيث يمتد طموحه، وبين الرفاق الذين حكموا "الاتحاد السوفيتي العظيم"، وكانت سلطتهم مطلقة ليس في الحدود الجغرافية للإمبراطورية الشيوعية فحسب، وانما عند كل المكاتب السياسية للأحزاب الشيوعية حيثما كانت، وهو بذلك يجد لنفسه المبررات لحماية نظام بشار الأسد، لتنعم قدماه بالمياه الدافئة في طرطوس على شواطئ المتوسط، والزج بقواته في شبه جزيرة القرم الأوكرانية، "الروسية سابقاً"، لحماية مواطنيها المنتمين إلى وطنهم الأم، أكثر من انتمائهم إلى وطنهم الجديد، الذي لم يُكلّفوا أنفسهم عناء تعلم لغته، أو احترام خيار غالبية أبنائه.
يتغاضى القيصر الجديد عن حقائق التاريخ المُتغير حتماً، يستذكر باستمتاع ربيع براغ، وأرتال الجيش الأحمر تحرث شوارع كييف أو تجتاح جورجيا، ويستعيد من الماضي غير البعيد، كيف كانت كلمة موسكو أمراً غير قابل للنقاش، في الكثير من عواصم أوروبا، ويعرف أنه خسر في ليبيا وقبلها في العراق وربما في سوريا لاحقاً، ويستطيع تحمل نتائج ذلك، لكنه لا يملك ترف التفرج على ما يجري عند حدود بلاده، وهو الساعي لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لتلافي نتائج الانتصار الغربي على الاتحاد السوفيتي، وتفكيكه إلى دول ترفض هيمنة موسكو، وتسعى للالتحاق بالغرب، دون احترام لماضي علاقاتها مع روسيا، التي كانت كريمة معها إلى حد إهدائها أراض روسية بجغرافيتها وسكانها، كما حصل في شبه جزيرة القرم.
مع إدراكه استحالة عودة حليفه يانوكوفيتش إلى القصر الرئاسي في كييف، فإن الرفيق بوتن يملك أوراقاً يمكن ان لعبها بمهارة، إعادة رسم المشهد عند حدود روسيا الغربية، فسكان القرم موالون لبلدهم الأم لكن ذلك لا يمنحه شرعية الغزو لحمايتهم، كما حصل في جورجيا قبل خمسة أعوام، كما لا يعني التسليم بالواقع الجديد في أوكرانيا، بينما يمتلك ما يُمكّنه من تهديد استقرارها عسكرياً واقتصادياً، وصولاً إلى تحريك أنصار العلاقة المتميزة مع موسكو، للمطالبة بمزيد من الاستقلال، لكن الخوف هنا من محاولة الكثير من العرقيات في روسيا، الخاضعة اليوم لسلطة موسكو، إعلان طموحها إلى ما يتجـاوز الحكم الذاتي، والبعد أكثر عن السلـطة المركزية الضاغطة.
بالطبع يمتلك سيد الكرملين أوراقاً في السياسة الدولية، يُمكن أن تحد من الرفض الغربي لسياسته الأوكرانية، فهناك النووي الإيراني والكيماوي السوري والفراغ في أفغانستان، وهو لعب مثل هذه الأوراق في بولندا ورومانيا وجورجيا، سعياً لحماية أمن بلاده، ومنع وصول نفوذ الناتو إلى حدودها، وأثبت قدرته على بعث دورها، للحفاظ على ما بقي من مواقع نفوذ، كانت تمتد بعيداً وعميقاً أيام ستالين وخروتشوف وبريجينيف، وإلى عهد جورباتشوف الذي أهدى الغرب البيروسترويكا والغلاسنوست، قبل أن يهدي ذلك لشعوب الاتحاد السوفيتي، التي تفككت أواصرها، قبل أن تستعيد روسيا بعض عافيتها على يد الرفيق الجديد القديم، المؤمن بالجمع بين صلاحيات وسلطة القيصر وسكرتير المكتب السياسي، في شخصيته وسياساته.
يدرك العالم أن ما جرى في أوكرانيا، يشكل تهديداً مباشراً للمصالح السياسية والاقتصادية والأمنية لروسيا، وهو لذلك قد يغفر لبوتن تدخله فيها، على أن يدفع الثمن في مواقع أخرى، ربما تكون سوريا أولها، رغم كونها المعقل الأخير لنفوذ روسيا في الشرق الأوسط، وبما يعني انتصاراً وهزيمة في آن معاً لكلا الفريقين المتصارعين، حيث يربح الروس في أوكرانيا ويخسر الغرب، بينما يربح هذا في الشرق الأوسط، ويتنازل عن الكسب في أوكرانيا، ويكون لبوتين القيصر والرفيق، بعض ما خطط لبلوغه، وغير ما كان يتمناه
بوتن.. الرفيق القيصر
[post-views]
نشر في: 3 مارس, 2014: 09:01 م