TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > ليس مجرد تحذير للصامتين ازاء اجراءات المفوضية

ليس مجرد تحذير للصامتين ازاء اجراءات المفوضية

نشر في: 3 مارس, 2014: 09:01 م

الاعتياد على قراءة الرأي الآخر، أو الاستماع إليه، أو مشاهدته وهو يدلي برأيٍ أو موقفٍ او توصيفٍ مضادٍ لما ترى او تعتقد او تتصور، والتفاعل الايجابي مع ذلك، يتطلب التشرّب بثقافة وقيم الاختلاف، وحُسن الاصغاء، وإجادة فن النقد والنقد الذاتي، وأخيراً القدرة

الاعتياد على قراءة الرأي الآخر، أو الاستماع إليه، أو مشاهدته وهو يدلي برأيٍ أو موقفٍ او توصيفٍ مضادٍ لما ترى او تعتقد او تتصور، والتفاعل الايجابي مع ذلك، يتطلب التشرّب بثقافة وقيم الاختلاف، وحُسن الاصغاء، وإجادة فن النقد والنقد الذاتي، وأخيراً القدرة على التقاط المشتركات، وتَمَثُّل ما هو صحيحٌ ونافع، يُغني موضوع الجدل والحوار، ويؤصله.

وثقافة الحوار والاختلاف والتفاعل، هي ثمرة مستوى متقدم من التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي العام، وهي من علامات التحضر والانفتاح والنضوج. ولهذا يصعب تلمس انعكاسات هذه الثقافة في البلدان المتخلفة، أو تلك التي تعيش في ادنى سلالم التطور، او تحت كابوس الانظمة الشمولية المستدامة، عبر عقود، وفي مجرى تصفيات سياسية، وإفراغٍ للمجتمع من اي مظهرٍ للحرية والإرادة الإنسانية الخلاقة.
وفي العراق، توارثت الأجيال المنكوبة، منذ تشكّل الدولة العراقية الحديثة، وقبلها طبعاً في ظل الإمبراطوريات المستبدة، كل أشكال القمع ومصادرة الرأي ومحاربة العقائد، باعتماد الوسائل والأساليب المنافية للكرامة الانسانية، من اعتقالٍ وسجنٍ وتعذيبٍ، وانتهاكٍ للحرمات. وكان من الممكن ان يجتاز المواطنون العراقيون الذين خَبروا كل تلك الانتهاكات، قيم الدولة المستبدة وأساليبها القمعية، لولا إعادة إنتاجها واعتمادها من قبل الحكومة التي عَمَّرت ولايتين تتزاحمان بكل ما توارثته من النظام الدكتاتوري الساقط، وتعمل بكل الوسائل المنافية للدستور والقيم الأخلاقية، للمضي في ولاية ثالثة، وهي كفيلة اذا ما تحققت، أن تحيل العراق إلى أثرٍ من الماضي.
إن الثقافة التي تشيعها عشيرة "ما ننطيها"، منذ تولّت السلطة، هي مزيجٌ من قيم الرأسمالية الرثة، "المُتيّمة" بما توارثته من عصور العبودية والاقطاع والجهالة، التي تُبيحُ كل المحظورات وتجد لها ما يبررها في ديباجةٍ منزوعة عن الاسلام في سيرورة وتطور رسالته المحمدية. وهي ثقافة تجمع بين "الحساسية المذهبية ازاء الدولة"، التي تعتبرها "عدواً" او امراً اغتصبه الآخر المذهبي، وكان سبباً في مظلوميتها التاريخية، ونشوة الانتصار التاريخي الذي مكنّها من استعادة الحق المغتَصَب، بالوثوب الى السلطة! لكنها وهي تُنهي المظلومية التاريخية بعد قرون، تعيد انتاج مظلومية أشدّ وقعاً على الطائفة المظلومة، وعموم الشعب، عبر استعادة هذا الحق.
ومن منطلق حساسيتها التاريخية إزاء الدولة، باعتبارها "مُغتَصِبَة"، تحِّلُ عداوتها، وتجنب التعامل معها، دون ان يبدو لبعض قادة الدولة، انهم الآن باتوا هم اولياء الامر، بعد ان اصبحوا على رأس الدولة، وبيدهم مقاليد السلطة السياسية، وإن "نهبها" و"اغتصاب" قرارها، وإرادتها، لم يعد حقاً "شرعياً"، ولم يعد كل ما فيها مُباحاً، بحكم "توكيل" منحته لنفسها، بالنيابة عن "الطائفة" والامة المسلوبة الارادة، يجيز لها التصرف وهي في موقع المسؤولية العليا، كيفما تشاء، ولمن تشاء، دون خشية من مساءلة!
إن الفريق المتسلط على الدولة ومرافقها الحساسة، لم يعد يتوجس خشية من تحدي الرأي العام، في كل خطوة يتخذها، وفي مختلف المجالات الحيوية التي فصّل فيها الدستور، وحدد أحكامها، رغم ما فيها من اوجه ومضامين "حمالة أوجه". وما قامت به المفوضية العليا للانتخابات من"اجتهاد" مُخلٍ، باعتماد ما تريد ان تصطفيه من معايير نظام ديمقراطي "متعثر"، باستبعاد مرشحين عن الانتخابات التشريعية، بسبب "سلوكٍ" غير مرضيٍّ عنه، من قبل ولي الامر بطبيعة الحال وليس غيره، فاق كل توقعٍ من احتمالات الالتفاف على القواعد الديمقراطية في ادارة العملية الانتخابية. ولم يعن للمفوضية المحترمة، ان الرأي واتخاذ المواقف، بغض النظر عن كونها تستهدف الحكومة او اي مسؤول في الدولة، حق يكفله الدستور لكل مواطن عراقي، وهذا الحق الدستوري، يتجاوز الضوابط الاعتيادية، حين يتعلق بالنائب المنتخب، وهو يمارس مسؤوليته ازاء ناخبيه، في ما يتعلق بمعالجة كل القضايا والظواهر التي يراها مخلة، حتى "ان أخطأ التقدير والاجتهاد" والواضح ان من استهدف بـ"اجتثاث" المفوضية، أو رأت ابعاده من قوائم المرشحين، هم بالتحديد المعارضون بثبات لدولة القانون، و"دولة" رئيسها، وما انتهجه وسار عليه طوال ولايته الاخيرة وما قبلها.
واذا اخذنا بمعايير المفوضية، وما تنسبه لغيرها من السلطة القضائية، في ما يتعلق بأسباب الإبعاد والاجتثاث، فهل من اسباب موجبة، تستند كلها الى الدستور، اقوى من اقترافات رئيس السلطة التنفيذية، والتي كانت نتيجتها خراباً اقتصاديا، وتعطيلاً للدستور، وانتهاكاً للحريات، وتجاوزاً على مواد الدستور التي تحرم زج الجيش في الصراع السياسي، وغض النظر عن نهب المال العام والفساد المستشري، ومواكب الضحايا والشهداء من القوات المسلحة والمواطنين الابرياء المساقين، دون تفويض برلماني، يشترطه الدستور، ولا يستثني حالة، أياً كانت، تسمح بتعطيل هذا التفويض..!؟
إن هذا الخرق الفاضح للمعايير الاولية لاجراء انتخابات ديمقراطية شبه حرة، يشكل اكثر من انذار للصامتين حتى الآن، ويهدد بتحول الانتخابات القادمة، الى اداة لتكريس سلطة الفرد المطلقة، ويسد الطريق على إمكانية التطلع لانفراج بات الأمل الوحيد التي يتشبث به كل عراقية وعراقي.
وبغض النظر عن الانتخابات ومآلها، فإن السابقة الجديدة "بتبريراتها" التي ساقتها المفوضية العليا للانتخابات، لابعاد المرشحين، ترسي الاسس الفاضحة، لتصفية اي مساحة للرأي تتعارض مع ما تراه السلطة والحزب و"القائد الضرورة". انها تكريس بقوة اللامنطق، واللاقانون، لثقافة الرأي الواحد، بعيداً عن ثقافة الحوار والتعدد والتنوع الثقافي والسياسي والعقائدي.
وبهذا المعنى.. فإن ما تبقى من فسحة الامل، مرشحٌ لأن يتحول الى خيبة ما بعدها سوى اليأس الممض..
وهذا ما لا ينبغي ان نسمح به..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. أبو سعد

    سيدي الفاضل ليس غريبا على ثقافتك النقد والنقد الذاتي ولكن الغريب ان تتحدث عن الدستور وكانه القاعده القانونيه التي يلتف حولها الجميع في حين هو دستور مختل مثل القائم على عدله... والدليل على اختلاله عدم التزامهم به من فيدراليته وتشكيل الحكومه الحاليه ب159نائ

  2. غلي الربيعي

    شكرا لك أبا نبيل لهذا المقال الرائع والشيء الوحيد الذي اريد ان أقوله : نحن نعيش في بلد لايوجد فيه دستور او قانون وانما تتحكم به ناس لايفقهون شيء بالسياسه ويفتقرون الى ابسط مقومات إدارة البلد وقد اصبحنا مهزله لدى بعض الجاليات الذين يقولون لنا ان

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram