TOP

جريدة المدى > عام > نحن في العيش ننجز فنّاً

نحن في العيش ننجز فنّاً

نشر في: 8 مارس, 2014: 09:01 م

نعم، هكذا نبدأ حب العمل والحياة والناس والطبيعة وعوالمها. ومن فضاء المحبة هذا نحب قيم العيش الأساسية والإبداع الإنساني على الأرض. في تبنّيات فاضلة مثل هذه نستطيع أن نجد مذاقات ورؤى ومشاهد مبهجة أو مؤثرة، بها نحظى بتماس روحي يلامس بالنقاط الموغلة فينا

نعم، هكذا نبدأ حب العمل والحياة والناس والطبيعة وعوالمها. ومن فضاء المحبة هذا نحب قيم العيش الأساسية والإبداع الإنساني على الأرض. في تبنّيات فاضلة مثل هذه نستطيع أن نجد مذاقات ورؤى ومشاهد مبهجة أو مؤثرة، بها نحظى بتماس روحي يلامس بالنقاط الموغلة فينا. في كل حال تسعدنا طموحات وحضارة التقدم الإنساني وجمال ودقة آليات هذا التقدم.
ثمة، إذن ، أسلوب جمالي في النظر والكلام والعمل . هذا الأسلوب الجمالي هو الذي يمنحنا الرقة والبهجة بديلَين عن الخشونة والارتداد. ومثلما ينطبق هذا الأسلوب على الكتابة والفنون بعامة، هو وساطة التقرب الحميم لمفردات الفن، لحضوره في اللوحة والكتاب والوجه الإنساني. نراه أيضا في انعطافة الجدول والزورق مستقراً أو يجري وفي نضال البشر من أجل العيش أو وهم في حالة العمران: تركيب ماكنة، تشييد بناية، تسميد، قطاف ولقاءات سرية حميمة .. الأسلوب الجمالي هذا هو سبيلنا لفهم احتياجاتنا البشرية.
مؤكد أن الحضارة هي التي تعين على وجود هذا الأسلوب من ثمّ على حضور الجمال في ما نكتب ونرى ونعمل. الأسلوب الجمالي هو الذي يحدد الفرق بين مستوى عمل وعمل آخر، فناً أو أدباً. هو الفارق أيضا بين الحضارة التي وراء هذا العمل ومستوى الحضارة وراء ذاك.
خطأ كبير حصر الجماليات بالفنون، الفنون أصلا لا تقوم بلا جماليات. الحضارة تسعى بأهليها إلى التمكن من امتلاك الجمالية في الوجود الاجتماعي كله. والنضال أصلا هو نضال ضد ما يعيق الوصول لهذه الجماليات وما يؤذيها. الجماليات لا يمكن أن تنفصل عن حب العالم وهو يتجاوز المجاعات والقهر وأشكال الشر الأخرى. هذه أوجه قبح. لم يعد الحب، حب وطن وحرية فقط، تجاوزهما الناس إلى حب الحياة الإنسانية كلها. الحياة فرصة عيش نادرة على كوكب باهر الجمال يدور ملوناً في الكون.. حين وجد كاكارين نفسه في الفضاء الخارجي، نسي مهماته العلمية والسياسية والقومية وصاح أول ما صاح : "ما أجمل الأرض من هنا!" .
ليست الجماليات كما أريد لها في التعليم المدرسي، هي ليست كذلك. أيضا هي ليست وصفات جمال أو ذوق أو أحاسيس خاصة اصطفتها نماذج من البشر يدور عليها الثناء. نحن نوجز فنقول : الجماليات تهب أحاسيس متقدمة في زمنها وهي أحاسيس مشتركة لمجموع حتى إذا كان استقبال إشاراتها فردياً. الجماليات لا تستطيع الحضور في فرد معلّق. هي تحضر في مشاركة. وهي ليست خاصة بجيل أو بعصر أو بعقيدة أو في بلاد. هي في جميعها وفي كل منها. جعلها مفكرو وفنانو البرجوازية خاضعة لمعايير الذوق السليم الخاص. لكن ما هو الذوق السليم؟ لنغير المعادلة ونقول: خاضعة للتقدم الإنساني – الحضاري – المدني. وبهذا نرجعها إلى أماكنها. نؤكد عائديتها للأزمنة والفئات والشعوب. ليس للجماليات حضور أبدي. هي مرحلية، آنية، تتقدم ولها علاقات دائمة بروح الشعب وهو يتطلع إلى الكمال. الإنسانية تتكامل بجمالياتها.
كما أن محاولة جعلها مِتَعيّة، هي محاولة صوفية في الأساس، انعزالية لتفوق أو لانتباه. حصر ملكية هذا التفوق يسحبه من الإدراك الجمالي إلى التميز الفرداني. وربما إلى الاكتئاب. والأخير ليس دائماً جمالياً!
الجمالي ليس الذي نحوزه، هو أيضا اليومي والمنزلي وفي كل الأشياء التي يمكن، انطلاقاً منها، جعل الوجود أثراً فنياً حقيقياً وملموساً. هذه الرؤية تغيّب الكارثية وتقرّب الحياة بأفقها البهيج ذي المعنى والمُتَمَنّى! وهذه مهمة الفن مثلما هي مهمة العمل الفكري وتصل إلى العمل اليدوي. الإنسان في الكون، فلابد من ان يرى جمالاً فيه ولا تحاصره رؤية الظلمة والمجهول. ليس هذا تشجيعاً على الاحتمال، هو حقيقة. الجمال موجود والأسلوب الجمالي هو الذي يكشفه لنا وللآخرين.
راوغت الوجودية كثيراً لتمتلك جماليات. لكنها عزلت جمالياتها فماتت في العزلة. لم تتغذَّ، لم تمتلك ديمومة البهجة الروحية والإحساس الجمعي في تقدمه. نضرُّ بالجماليات ونحددها حد الاختناق إذا نسبناها إلى اللامرئي فقط. الجماليات أيضا تُرى وتُحَسّ وتُعاش ونتذوقها وأحياناً كثيرة تكون لنا النديم الذي يمتلك ذكاء الإشارات. المتقدمون على المتخلف يجدون موسيقى نادرة وفهماً آخر ولما حولهم في الزمان والمكان استجابات.
جماليات المرحلة جماليات منبثقة توّاً. يتفق على حضورها والتمتع بها الإحساس الإنساني المشترك بتفاوتات قليلة وحين أقول الإحساس الإنساني المشترك أعني به ما يتصل بالامتياز البشري الجديد.
لسنا ضد الوجودية، فهي محاولة من محاولات البشر المتقدمين لرؤية الخلاص أو المعنى أو لتحمّل مجهولية المقام والمصير. لكن فصل العيّنة أو النخبة، المُنتبهة عن عموم حركة البشر الأحياء هو عمل تعسفي. وهو أيضاً يبقينا بما يشبه الاستثناء. وهذا مثلما يمكن وصفه بـ المُتجاوِز، يمكن أيضاً وصفه بـ حبيس المحنة، المنحسر من الحياة وحركتها وطبيعتها الكونية وهذه تكوّن الواقع السائد  الذي يجب التآلف معه والانتصار على المؤسف والمؤذي فيه. ثم لماذا اليأس والحياة تجهد وتحقق منجزات وتكتشف؟ نعم المصير واحد لكن الحياة يجب ان تُعاش وان نجد أو نوجد فيها جمالاً لنستطيع به مواصلة العيش والتمتع بهذا العيش أيضاً. ان هذا لا توقفه القناعة بان ليس للعقل أو للفكر الإنساني قدرة على سبر الأشياء في ذاتها ولا على المطلق. نحن نعيش الحياة ونعلم أنها، ونحن ، كذلك. الفن مثل الدين والفلسفة يعبر عن الطريقة التي يتوصل بها الفكر إلى تخطّي التعارض أو التناقض بين المادة والشكل وبين المحسوس والروحي. والجمالي مظهر لذلك المسعى الأبدي وهو امتياز إنساني لانكوص. هو مسعى أبدي لكشف الحقيقة وللتلذذ بفاعلية هذا الكشف واستمرارية المسعى.
هذا هو المكسب البشري. هو منجز الإنسان العقلي والحسي معاً. اقتراب الجميل من اللمس أو من الفهم أو من التحديد، هو ما يجعله أبدياً. كما الغموض اتصال غير مباشر بالكون. سنظل غير قادرين على تحديد الجمال تحديداً قياسياً ولا على تعريفه. أقرَّ سقراط بأنه يجهل ما هو الجميل وبأن الأشياء الجميلة صعبة..
نعود إلى القول بأن الأسلوب الجمالي في الكتابة والأسلوب الجمالي في عمل الفن والأسلوب الجمالي في العيش من شأنه ان ينقلنا من العادي ويوصلنا بالمتفوِّق وبالمُتَمَنّى أو الذي يفعمنا بالمعاني المُدخَّرة، الخبيئة، في الكون الذي نعيش فيه. وهذا تماماً يشبه لحظات، ساعات الانغمار في إنجاز العمل الفني. نحن في العيش وفي العمل وفي حضورنا اليومي، إنما ننجز فنناً ! هذا الفن لا يتضح بنماذج مادية قدر ما يتضح بانسراب الروح في الفن وفي الأشياء ونحن نواصل العيش في الحياة. هو الروح المتفوق المنبثق من الروح الجمعي خلال مفردات عيشه وعمله. وهو الذي يرسم حضارات ولا ندري أو ولا نحس به !
قال هوغو يوماً : لكل شعب جديد فن جديد. ربما أراد ان يقول : لكل شعب جديد إشارات للجمال جديدة. وهذا يعني التمكّن من وصولٍ جديد. وهذا بدوره يعني منجزات جديدة في الفن والتقنية والصناعة والإدارة والاقتصاد والاتصال والغوص، أو في حركة الإنسان، وربما عيشه، في الفضاء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

رواية "لتمت يا حبيبي".. إثارة مشاعر القارئ وخلخلة مزاجه

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram