يزورني طيفها طواعية كلما داهمتني حمى او صرعتني خيبة او الم بي وجع عين .
يدها حانية رحيمة ، ملمس الحرير كفها الخشن ، تمسد موضع الألم وتتمتم :باسم الله المشافي ، باسم الله المعافي .. ليتبدد الألم .. ويحل الشفاء … من علمها سر التفكير الإيجابي .. والإيحاء النفسي ، قبل شيوع العلم بستين سنة؟
استحضر خيالها، واستعيد نجواها ، وصوتها الرخيم يحدونا ويغمرنا بثقة من يقبض على الجمر دون ان يحترق ، ويمشي على الماء دون ان يبتل او يغرق.
كانت حين ترتل القرآن — وقد حفظته آية آية — يتخضل صوتها بالخشوع ، فتنتقل الرعشة القدسية لكل من يستمع..
واحهت أعباء الحياة مبكرا : رحل — بمرض الخناق — ابنها البكر ذو السنوات الخمس ، تبعته أخته الصغيرة لإصابتها بالحصبة ، ولحقت بها الصغرى بعد شهرين ، أية قوة خارقة منعتها من الجنون او الكفر او التنديد بوحشة القدر .
رحلت وظلت وصاياها دليلي: حذار من الثرثرة ، والجدل العقيم ، فالفم المطبق لا يدخله التراب، لماذا منحنا أذنين اثنتين ولسانا واحدا ؟ لكي نصغي ضعف ما نتكلم .
عنفتني برفق ، يوم جئتها وانا صبية ، راعفة بالاسئلة ، اشهر بوجهها كفي الناحلة ، وافرد سبابتي — ألا قولي لي : هل نحن كذا ام هكذا؟ ( السبابة مستقيمة أم معوجة ) والقصد: انحن شيعة ام سُنَّة؟ قولي لمن تسالك غدا : انا لست اصبعا! قولي لها انني مسلمة .. لا ، لا… قولي لها انني إنسانة .. وكفى . لذا بررت لها ضعفها الإنساني ونشيجها المكتوم وهي تودع صديقتها اليهودية والأسرة تزمع الرحيل عن ارض العراق :كرجية .. يا شقيقتي التي لم تلدها أمي … روحي يحرسك الرب وترافق اهلك السلامة . لا انسى مشاركتها جارتنا الصابئية طقوسها وأباريق الماء وشموع النذر ، لا انسى تطريزا بالنمنم والكلبدون لثوب التعميد لبنت جارتنا المسيحية .
للحكايا على لسانها ، مذاق الرطب وضوع زهر القداح : أقاصيص شهرزاد في الف ليلة ، سيرة عنترة ، أبو زيد الهلالي ، حكم نهج البلاغة ، الرشيد والبرامكة ، الأمين والمأمون .جرمط والسعلوة ..و..و ..
— من أين كل هذا الخزين المعرفي ؟ من رفوف مكتبة مهملة في ركن من سرداب معتم شبه مهجور .
— كيف توفرت فرص القراءة ليافعة مثقلة بأعباء؟ ولم تكن المصابيح الكهربائية قد شاع استعمالها آنذاك؟
— في فسحة من السطح العالي ، انتظر ان يصير الهلال بدرا.. قرأت تلك الأسفار تحت ضوء القمر!
كان رب البيت — أبي —يناديها يا أم غازي، لم اسمعه يناديها باسمها الحاسر ، كأنما كان يكرمها بوصفها أماً.
كان اسمها في الأوراق الثبوتية : نظيمة، العائلة تسميها ( نزيمة ) بتفخيم حرف الزاء. وكانت تتوهج فرحا إن دللها ولدها وناغاها: ماماتي .
أمي لا تشبهها امرأة، أمي ليست ككل الأمهات ….
هراء ، وجهل وقصر نظر . بل كل الأمهات يشبهن أمي .. كل الأمهات .
فإليهن — حاضرات — جمعا وفردا ، السلام
وعليهن —راحلات — جمعا وفردا شآبيب الرحمة . ومثواهن جنات الخلود .
هن اللواتي..
[post-views]
نشر في: 9 مارس, 2014: 09:01 م