حاول صديق لي روسي ذات يوم أن يحسّن من إنكليزيته عن طريق دراسة " مقدمات Preludes " للشاعر الإنكليزي ت.س. إليوت. و قد عرف الرجل آنذاك ترجمةً و حفظها عن ظهر قلب، و أحب أن يتلو، بعاطفةٍ مدوّية، بيتاً منها عن كيف أن مصابيح شوارع لندن تتألق مثل قناديل بحرٍ
حاول صديق لي روسي ذات يوم أن يحسّن من إنكليزيته عن طريق دراسة " مقدمات Preludes " للشاعر الإنكليزي ت.س. إليوت. و قد عرف الرجل آنذاك ترجمةً و حفظها عن ظهر قلب، و أحب أن يتلو، بعاطفةٍ مدوّية، بيتاً منها عن كيف أن مصابيح شوارع لندن تتألق مثل قناديل بحرٍ مضيئة في قاع المحيط. و حين وصل إلى المقطع المطابق للنص الإنكليزي، اختلط عليه الأمر. و كان كل ما قاله : " و من ثم ضوء المصابيح ". لا قناديل بحر، لا محيط. و من الواضح، أن المترجم الروسي قد وجد أن النص الأصلي البسيط لإليوت غير شعري بما فيه الكفاية فقرر التلاعب به. و لقد شعر صديقي بأنه قد تعرض للخيانة على نحوٍ مضاعف ــ أولاً من إليوت، لأن قصيدته لم تكن ممتعةً كثيراً رغم كل شيء؛ و ثم من المترجم، لأن بيته الجميل كان مجرد تلفيق.
و هذه تجربة عاشها كثيرون منا عند قراءة أعمالٍ كبيرة مترجمة. إذ يصيبنا قلق تظنّني من أننا لا نعيش حقاً العمل ذاته، و أننا نتعرض للخداع .. هل " الكوميديا الإلهية " أو " حكاية غانجا Ganja " تعني حقاً أي شيءٍ مما يقول المترجم أنها تعنيه؟ كيف يمكننا أن نكون متأكدين، حين لا نعرف اللغة الأصلية و لن نعرفها؟
و هذه ليست شكوكاً ستلقى الكثير من التعاطف من ديفيد بيلوس، مؤلف ( هل تلك سمكة في أذنك؟ Is That a Fish in Your Ear? ). فهو مترجم محترف ( لكتّاب أوروبيين رفيعي المستوى مثل جورجيس بيريك و إسماعيل كاداريه ) و سيكون منصرفاً بسرعة عن خيبة صديقي الروسي. فالترجمة، كما يؤكد في كتابه هذا عمل إبداعي بشكلٍ متأصّل. و الترجمة الحرفية تماماً سراب ــ إنها تبدو دقّة مجردة من التزيين، لكن ذلك في الواقع مجرد خدعة أسلوبية، يقول السيد بيلوس إنها " ليست لها علاقة بالأصالة، أو الصدق، أو بساطة التعبير ".وهو سيحتفي بقناديل البحر المبهرجة لصديقي الروسي، كما لو كانت أزهاراً تطلع من الأرض الصلبة لنص إليوت الأصلي.
إن كتاب السيد بيلوس ليس كتيّباً تقنياً حول كيفية ترجمة الشعر. إنه معاينة لتحديات الترجمة ومسرّاتها بكل أشكالها ـ الأدبي منها، و الدبلوماسي، و الثقافي، و السياسي، و الاقتصادي. و هو يأخذ أوسع رؤية ممكنة لموضوعه. فيكتب عن الطريقة التي يعمل بها (Google Translate )، على سبيل المثال ( فهو لا يستشير القواميس بل يقوم بدلاً من ذلك بالحث عبر ما لا حصر له من صفحات النصوص الأصلية و الترجمات ليجد أمثلة على الكيفية التي تُرجمت بها عبارات مماثلة سابقاً )؛ أو كيف يتدبر قانونيو الأعمال أمرهم لكتابة العقود التي تصمد أمام كلٍّ من المحاكم الأميركية و الصينية ( خاصةً ما يتطلب البراعة منها مع عقود الإنشاءات، لأن الأميركيين و الصينيين يفرزون الأصناف المتنوعة للبنايات بطريقة مختلفة جوهرياً )؛ أو لماذا من الصعب بشكل غريب أن نترجم تعبير " الحقوق الإنسانية human rights " إلى الفرنسية في حين أن الفرنسيين يدّعون أنهم اخترعوا المفهوم ( و ما اخترعوه كان " the rights of man "؛ و ليس هناك من بديل حيادي الجنس، و أنتم تعرفون ما يتعلق بالفرنسيين و الأناقة ).
و الكتاب سريع ــ و متعجل، حتى ــ لكن السيد بيلوس يُبطئ أحياناً ليهرس هذا الجزء السيئ أو ذاك من الفولكلور اللغوي. فليس صحيحاً، على سبيل المثال، أن الأسكيمو لديهم مئة كلمة لأنواع مختلفة من الثلج لكن ليس هناك من كلمة تعني " ثلج snow " على وجه الدقة. و الواقع، كما يشرح، أن الأسطورة العنصرية عن كيف أن المجتمعات " البدائية " لا يمكنها أن تعمّم تجربتها إلى أسماء مجردة. و حتى لو كان ذلك صحيحاً، يوضح السيد بيلوس، فما كان سيكون هناك سبب مع هذا للشعور بالاعتداد.
و الأجندة الحقيقية لبيلوس، كما تظهر ببطء، هي التهجم على ما يدعوه بـ " التسموية nomenclaturism ". و هذا مفهوم مفاده أن الكلمات لها علاقة الند للند مع الأشياء التي تزعم تسميتها. و ليس لدى السيد بيلوس أية مشكلة في إظهار أن الفكرة كلها مرتبكة على نحو عميق وساذجة فلسفياً. فحتى الكلمات و العبارات الأكثر صراحةً يتضح في النهاية أنها مشوبة بالمجازية. و كما يوضح السيد بيلوس، فإن عبارة إنكليزية مثل " رأس الدولة head of state " تعتمد على مجاز مطمور لا يوجد في لغات أخرى. مع هذا فإن معظم الناس، من دون التفكير كثيراً في ذلك، ميّالون للتسمية بطريقة أو بأخرى. فنحن واقعون في فخ فكرة أن الكلمات هي أسماء الأشياء ".
لكن ما البديل؟ لا يقدم السيد بيلوس أي جواب، و مع سبب جيد : أن نظرية غير تسمويّة مقنعة ستتطلب استكشافاً طويلاً للسنادات الأوسع للفلسفة اللغوية، و السيد بيلوس ممانع لجر القراء إلى حقل مزعج كهذا. و نظريته هي أن الترجمة جزء من لعبة اللغة المبهجة، العفوية، الحرة ــ و أنا في الآخر غير مقتنع بأن العملية بذلك السطوع. إن قلبي في الواقع مع صديقي الروسي . و هناك سطر مبهم لسوفوكليس عن أمجاد أثينا، الذي يمكن ترجمته كـ " خيول عليا، مهور عليا، البحر الأعلى ". و قد قدم وليام بتلر ييتس مرةً ترجمةً بديلة مذهلة بالأحرى : " خيول و خيول البحر، خيول بيض ". فهل هذه ترجمة مُرضية؟ هل هي ترجمة على الإطلاق؟ لدي شعور بأنها أشبه بأن تكون عكس الترجمة : إنها لافتة و جميلة إلى حد أنها تمحو الأصل. و كتاب بيلوس الفاتن لا يتحرّى أبداً بشكل كافٍ إمكانية أن يكون هناك في أية ترجمة شيء ما أساسي يمكن أن يُفقد.
عن: Wall Stree Journal