الرواية كاشفة بوضوح عن الصراع الثقافي بين نمطين حضاريين ، هما الشرق والغرب وتبدّيات هذا الصراع الطويل كثيرة ، مبثوثة في المتون العديدة والمتنوعة بالرواية بحيث تحول التوتر بين الاثنين إلى إشكالية لعبت دوراً بارزاً ، وواضحاً على سامر اللائذ بالراوي الع
الرواية كاشفة بوضوح عن الصراع الثقافي بين نمطين حضاريين ، هما الشرق والغرب وتبدّيات هذا الصراع الطويل كثيرة ، مبثوثة في المتون العديدة والمتنوعة بالرواية بحيث تحول التوتر بين الاثنين إلى إشكالية لعبت دوراً بارزاً ، وواضحاً على سامر اللائذ بالراوي العليم بكل شيء ، حتى التفاصيل البسيطة والمهملة التي اتسعت لها الرواية وصارت بالتتالي شذراتها المتكررة والتي سرعان ما تظهر مرة أخرى ، فتبدو وضمن مسارات السرد شذرات مضيئة ، معرفة بشيء جديد ، له علاقة مباشرة بالشخوص التي حافظت على عددها طويلاً ، وسرعان ما تخترقها أخرى ، تتجاور معها ، وتضيء فضاء ضرورياً ، لكنه غير بعيد عن الذي كان ، وخصوصاً نمطية العلاقة الحضارية واستدعاء شخوص أخرى ، حققت كل الذي أراده القاص سعد محمد رحيم من مواجهات مع الآخر ، مستفيداً من الاستشراق وما بعد الكولونيالية لإضاءة الشرق وجذوره وانعكاسه بالعلاقة مع الآخر الذي تحول تدريجياً إلى بؤرة مركزية ، وكأن للقاص سعد مهمة استعادة الوظيفة المعروفة والنمطية للآخر وتحويلها إلى آلة له ، حتى يستعين بها للطرق على باب الآخر .والأكثر تعبيراً على الوافد الجديد ـ وكان بالإمكان الاستغناء عنهما ـ هما نيكول ومايكل اللذان أضفياً على السرد التكرر لآراء ومفاهيم وأخطاء وجرائم ، قالتها الوحدات السردية منذ البداية . ولم يكن حضورهما في المتخيل السردي مهماً وفاعلاً ، لأنهما صارا حلقة مكملة . نواجه في هذه الرواية المتخيل السردي وعلاقته بالآخر . العلاقة التي يرويها السرد ويكشف عنها ، بشفافية وشعرية واضحة ، وهذا ما تم في عديد من المتون السردية . صحيح أن التكرر من مستلزمات السرد أو المبين الحكائي ، لكن باشتراط بؤرتيه ودخوله إلى النسيج الداخلي بمرونة عالية ، وتحوله إلى مكمل للمتن وليس عبئاً ، فأنا كقارئ لا أستطيع التعايش مع نيكول ومايكل وهما من ضحايا الآخر أيضا ، كل منهما يحمل أعباء الحروب المتكررة ضغطاً نفسياً ودماراً لحياتهما .
ابتكر القاص سعد محمد رحيم نيكول ومايكل مع روبرت شماعة قصيّة ليقول غيرهم كل الذي قرأه واطلع عليه استشراقيا ويقذف به الآخر . والوحدات السردية الخاصة بهم قابلة للاختزال كثيراً والاكتفاء بما توفر من طاقة دلالية لديهم ، كشفوا عنه أثناء السكر والعربدة . أراد القاص سعد محمد رحيم كشف سواد وجوه الآخر ، لكني وجدتهم ضحايا وقتلة في آن واحد .
ـ نعم لقد كان طياراً برتبة كابتن
قلت " إذن ربما هو اليورانيوم المنضب الذي استخدمه
ابتسم روبرت بشيء من الارتباك وقد تقلصت عضلات وجهه من الحيرة ، ولم يعلق ، أما أنا فكنت منجذباً نحو الدائرة المسحورة .
ـ وصديقته نيكول ... اجل ... قلت أن اسمها نيكول ، هل بينهما مشاكل ... أقصد من نوع ان مايكل ومع استفحال مرضه أدمن الشراب والقمار ؟ ص154 /
كادت هوية سامر تختفي ولم يبق منها غير الظلال التي تتبدّى من خلال شبكة العلاقات الجديدة الواسعة للغاية ، علاقة تكون في لحظة مفاجئة ، لأن تعدد الآخر حاضر في كل مكان ، وهو مطرود من محيطه ، لذا يندفع بحماس لاستثمار الفرص المتاحة .
[ تصافحنا أنا ومايكل ، أنا ونيكول . وقبّل ـ مايكل كلوديا وكاترين ، وقبّل روبرت نيكول ] .
قالت كلوديا ونحن نصعد اليخت :
ـ أخبرني روبرت أن نيكول خرجت لتوّها من المصح ص155//
هذه إشكالية الآخر بالعلاقة مع محيطه ومعرفته بشكل جيد بالدور المنفذ من قبله وما نتج عنه من دمار مادي وتخريب للإنسان .
والتماعات السرد البرقية / الخاطفة أضاءت كون كل الذين التقاهم هم ضحايا . وأينما توجه سيجدهم ... الضحية موجودة في كل مكان من العالم ، والجلاد مرئي وغير مرئي ، هذا ما أراده سعد محمد رحيم ، بالإضافة لإعلان الجريمة الإنسانية التي حدثت أثناء حرب الخليج ودمرت الحياة . وما حصل في المتون القصيّة كثيرة ، متنوع ومكرر ، لكنه نوع من اللعب ، ولا يختلف كثيراً عن ابتكارات خالد للعب وهو مستمر أيضا . وعالمنا محكوم باللعب في كل لحظة وسامر مجنون ببحث مستمر عن فراديس الكائن الضائعة ... وهذا هو " وهمنا الذي يساعدنا على الحياة ص10 // .
سامر مشدود لأصوله الثقافية ويعرفه الآخر بشكل جيد ويدرك تفاصيله الدقيقة ، المهمة وغيرها ، بحيث تحولت الأنا عارية كالصحراء ، أما الآخر المتكتم والمنفلت في آن ، يتحول سريعاً من وضوحه إلى غموض مثير للقلق
سامر قادر على اللعب باللغة ، مثلما ظل خالد متمكنا في ابتكارات اللعب المستمرة . هو الآخر قابل وطبع عبر كنيته ومكوناته العميقة أن يتمظهر عن تغيرات آنية سريعة ، سامر الخبير العارف باللغة وبجسدها يزاول لعبة التغير والانحراف وقد اعترف بذلك.
ـ أنت إذن من أولئك المولعين باللعب في جسد اللغة
ـ تستطيعين أن تقولي هذا
تبتسم الابتسامة ذاتها التي ستظل تفجّر في روحي فقاعات المسرّة لأشهر سبعة أو ثمانية قبل ان تستحيل إلى طيف بعيد ، قبلة حنين ، حلم لذيذ غادرني وعليّ ملاحقته ، استعادته ، الاحتفاظ به وان في هيئة صورة مشرقة في الذاكرة ص9 //
قال سامر بانه قادر على اقتراح عشرات الأسماء لها من الحروف المكونة لكنيتها : ـ أنا كلوديا ـ كلود روز ... روزديا ... روز كلوديا ... كلوروز ... دياروز ، يمكن أن أنحنت لك مئة من هذه الرموز .
لم يكتف بمنح نفسه قدرة التلاعب بالاسم والقلب بين حروفه والانحراف بها ، وكأنه يزاول لعبة المربعات ، لكنها هي ، تخمن اسمه ، تعرف كثيراً منها ، بمعنى نمطية الأسماء المتداولة وسط فضاء مغلق ، تتوزع فيه الأسماء ، مطروحة لتعبر عن ثقافة ما .
ـ قل لي ما اسمك أنت ... دعني أخمن ... أحمد ؟ علي ؟ مصطفى ؟ سعيد ؟
ـ لا ، لا ، لا ، لا
ـ كمال ؟ عمّار ؟ عبد الله ؟ محيي الدين ؟
ـ لا ، لا ، لا ، لا
ـ قل ... قل لي ، ما اسمك ؟
ـ تلتقط خنصري بخنصرها ونحن نخطو تاركين آثار أقدامنا على الرمل ص10 //
كل هذه النصوص الطويلة اختصار وتعريف بضرورات الاسم وعلاقته بالكائن ، أنها ـ الكنى ـ ثقافة مرحلة وتاريخ ، وهي تمظهرات لها ، معرفة وكاشفة لها ، وتعني بان الإنسان ، يبقى هامشاً إذا لم يوقع عليه بالاسم / يضفي عليه كينونته ويقترح له وجوداً في الكينونة .
وكنية سامر مضيئة لبعض سلوكه وتصرفاته هناك ، مثلما هي اختصار للصحراوية وعزلتها وسرعة اندماجها بفضاء مغاير يفتح عليها ما كان مفقوداً وضائعاً ، بما في ذلك طاقته الشرقية ، فحولته ، انقياده وراء الأنثى ، تعبيراً عن جوع موروث ، وجد ذاته حاضرة ، لا بل متمركزة في العالم ، لحظة مشيته معها على الرمل [ أحس أني موصول الآن ، بقلب العالم ، بجوهرة ، الفذ ، الساطع ، بالقانون الأسمى للوجود ، ذلك الذي يمنحنا الشعور بأن الحياة لها معنى سام وان كان غامضاً وزلقاً ، وأنها على الرغم من كل شيء جديرة بالعيش ص10//
يحاول الزوغان ثقافياً عن صحراويته الموروثة والراسبة في أعماقه ، والآتية إليه بهدوء وخفة ، من هنا كشف عن أفكار فلسفية حول الاسم والكائن وكينونته ، يعيد مفاهيمه الفلسفية المعروفة سرداً ، لأنه يدرك بشكل جيد ، من أن السرد أنطولوجيا معرفية ، تفضي لكل ما اهتم به الكائن وانشغل أيضا .الصحراوية موجودة في تفاصيل السرد البسيطة وقصدياً وكأن القاص سعد محمد رحيم أراد ذلك أو تسربت باللاوعي . استعاد سامر العلاقة الروحية مع الصحراء التي عرفها الآباء الأوائل [ روحي الضائعة الصارخة في البرية ، الحارة والمتطلبة ، فأحس للمرة الأولى بأننا معاً في فاتحة نشيد باهر ، يهيج مياه الأبيض المتوسط ... أقول لها:
ـ كأن الزمان ، وجد من أجل هذه اللحظة
تقول لي :
كم أنت حالم أيها البدوي الضال ؟
أقول لها ، أنت الأخرى حالمة أيتها الغجرية الوحشية ص13 //
لم يخف سامر من مغامرته ونزواته المتكررة وأحلامه الصحراوية بالامتلاك الذي لم يكن مألوفا من قبل ، مع ضغط المكبوت في اللاوعي الفردي والجمعي . انطوت الرواية على تعدد الأصوات ، لكنه مؤقت والسيادة للثنائية . التعدد حاضر وغائب ، والتمركز للثنائيات الحوارية لكني أعتقد بأن ثنائية سامر / حنان هي الأكثر إثارة ومتعة فنية يعني وجود سامر في بغداد خلاصاً له وهروباً من محيط ضيق اختنق فيه ولجأ إلى بغداد ، فضاء أوسع وحرية لم تكن معروفة من قبل ، كذلك ممارسات مسموح بها : يخلص سامر تماماً من سلطة الأب . وفي بغداد انفتاح غير مألوف على علاقات واسعة جداً . بينما كان قبلاً مريضاً بوسواس العطالة . عاطل عن العمل وعن الحب والأمل " منفي وأنا في بيتي ومدينتي " لكنه ظل ملاحقاً بالفقدان خلال حياته الطويلة موت والدته وحنان وخالد . وخسر حباً نقياً وإخلاصا لا مثيل له ، تبادله الاثنان ، وانطفأت شعلة خالد الذي عرف كل شيء ولم يستطع استثمار إمكاناته .
بغداد نوع من خلاص وسط وجود جديد تماماً : اكتشاف المدينة الواسعة وزواياها التي كان فيها ... أخذته بغداد المنقذة للتعرف على حنان المركز السردي الشفاف ولا أدري كيف انفلت هذا الخيط من قاص ذكي ، وطفر على جدل العلاقة مع الآخر وهو ـ الجدل ـ متمظهر من خلال حنان وخسارته لها . الرواية ممتعة وسادت نمطيتها عند التعبير عن الآخر ، القضية التي انشغل بها عدد غير قليل من الروائيين العرب ،مثل سهيل إدريس / توفيق الحكيم / عبد الحكيم قاسم / بهاء طاهر / الطيب صالح / فلاح رحيم / عواد علي /. وأعتقد بأن الحضور السابق في السرد العربي ، يضع المحاولات الجديدة أمام اختبار صعب.