اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > مبنى انحصار التبوغ: تمثلات الخطاب "البروتالي"

مبنى انحصار التبوغ: تمثلات الخطاب "البروتالي"

نشر في: 14 مارس, 2014: 09:01 م

يدهشنا رفعة الجادرجي (1926)، معمار مبنى مديرية انحصار التبوغ في باب المعظم <1967> (الذي نكرّس لعمارته، هذه الحلقة من زاوية "عمارة..عمارة")؛ يدهشنا بتقلباته الأسلوبية، وتنوع مقارباته التكوينية. ولكونه معماراً مجداً، وفطناً، مثلما هو مطلع، ومتابع

يدهشنا رفعة الجادرجي (1926)، معمار مبنى مديرية انحصار التبوغ في باب المعظم <1967> (الذي نكرّس لعمارته، هذه الحلقة من زاوية "عمارة..عمارة")؛ يدهشنا بتقلباته الأسلوبية، وتنوع مقارباته التكوينية. ولكونه معماراً مجداً، وفطناً، مثلما هو مطلع، ومتابع جيد عما يدور في الورشة المعمارية العالمية، فانه باستطاعته، بخفة، ان يتخلى عن "كشوفاته" التصميمية، هي التي بذل جهداً كبيرا في إرسائها بالخطاب، وينتقل إلى مرحلة أخرى، تقود نحو مقاربة أخرى، قد لا تكون ذات صلة كبيرة بما سبقها من مراحل مساره الإبداعي، تحدوه رغبة قوية لتجريب صوابية "كشوفات" إبداعية جديدة، يمكن لها ان تثـري منجزه المعماري، المنجز الذي يتوق لأن يكون حاضراً بقوة في المشهد المعماري المحلي والإقليمي على حدٍ سواء. لكن هذا الحضور، وإن كانت مقارباته التصميمية، تستقي وجودها (وشرعيتها ..أيضاً!) من تطبيقات عمارة الحداثة، فإنه يضفي عليه (على الحضور)، ذائقته الخاصة، طامحاً لأن يكون، إضافة مميزة ومعبرة، في الممارسة المعمارية. 
في منتصف الستينات، ولع الجادرجي، في مقاربة تصميمية جديدة، كانت خصوصيتها وخصائصها، وقتذاك، مثار جدل واسع في الأوساط المعمارية العالمية. وأقصد بذلك ظهور مقاربة "البروتاليزم" أو بالأحرى "نيو بروتاليزم" New Brutalism، إنها احدى المقاربات التي ظهرت بصورة لافتة في نهاية الخمسينات وبداية الستينات بالمشهد المعماري، كونها نوعاً من احتجاج على ما سُمي في حينها بسطوة "التيار الدولي" في العمارة، ذلك التيار الذي انتشر انتشارا سريعا في الوسط المعماري، كالنار في الهشيم. ودائما كان ذلك الانتشار متسماً بعدم مراعاة الذائقة الجمالية المحلية، وغير مكترث بثقافة المكان وتقاليده البنائية. لم تكن تلك الاحتجاجات أو الاعتراضات، مقتصرة على مكان جغرافي محدد، وإنما شملت مناطق متنوعة، ذات مرجعيات ثقافية مختلفة. ولعل ظهور وتبني "النيوبروتاليزم"، كان بمثابة تجسيد لتلك الاعتراضات من قبل كثر من المصممين وخصوصا لدى الزوجين الإنكليزيين: "بيتر واليسون سميثسون"، اللذين عُدا "عرّابي" النيو بروتاليزم في الخطاب المعماري. 
ومقاربة الـ "نيو بروتاليزم"، من خصائصها الاعتراف، كما أشرت إلى ذلك في كتابي "مئة عام من عمارة الحداثة"، "..بالمنطق الوظيفي والفصاحة الإنشائية، كأساس في العملية التصميمية. بيد أنها تسعى إلى مواجهة رهافة وتأنق المواد الإنهائية الاصطناعية ودقتها بتوظيفات مكشوفة وواسعة الخشونة، وأحياناً فظاظة ملمس المواد البنائية الطبيعية ،مثل الحجر والآجر والخشب، مستخدمين أساليب تركيبية مبسطة جداً في إنشاء المباني. ... أثر على نهج النيوبروتاليين معماريون ذوو اتجاهات مختلفة ومتباينة في منطلقاتها الفكرية. مثل المعماريين: "ميس فان دير روّ" و "لوكوربوزيه"، و"فرنك لويد رايت". فقد أثرت أعمال "ميس" عليهم لجهة وضوح المنطق الإنشائي وجلائه. وكذلك الاستخدامات الواسعة للتراكيب الحديدية. في حين أثارت أعمال لو كوربوزيه انتباههم لنهجه المتميز والتقصي الدائم للبنى المعمارية الجديدة، الذي انطوى عليه النشاط التصميمي لذلك المعمار الطليعي...". (خالد السلطاني، مئة عام من عمارة الحداثة، دمشق، 2009،ص. 227). يضيف رفعة الجادرجي إلى الخصائص البروتالية، أنها هي التي ستكوّن مرجعية تصميمية لمبنى التبوغ إياه، نكهته الخاصة، النكهة المتكئة على ذائقته المعمارية المميزة، وثقافته الرفيعة، ومتابعته الجادة لما يجري في "سوق" العمارة العالمي.
في مبنى التبوغ، تنتاب المرء دهشة بالغة، لجهة قرار المعمار المتخذ في معالجة مفردات تكوينات مبناه. ثمة صفاء تصميمي، مشوب بالبساطة والهندسة المنتظمة، يطغى على مخطط المبنى. يقابله من ناحية أخرى "ضجيج" تصميمي، تحدثه عناصر كثيرة ومتنوعة تزدحم بها مفردات الواجهتين: الأمامية ..والخلفية أيضا. بكلمات آخرى، ثمة تعارض "مقصود"، ينزع المعمار به إلى تأكيد حضوره التكويني؛ تعارض جلي بين صفاء المخطط الافقي للمبنى، وكثافة عناصر "التصعيد" العمودي لكتل ذلك المخطط، الذي يُبتغى من وراءه إكساب المبنى قوة تعبيرية لافته. ينشد المصمم إلى ان تكون مفردة الممر الوسطي الطويل، بمنزلة العنصر الفعال في مخطط المبنى، هو الذي "ينشر" بتفريق واضح، على جانبيه فضاءات المبنى التي يوزعها ما بين الفضاءات "الخادمة" و"المخدومة"، بحسب أطروحة المعمار "لويس كان"، (الذي نرى، من دون شك، تأثيرات عمارته "الصرحية" على انتقائية قرار المعمار البغدادي المعروف). ومن خلال خاصية ذلك التوزيع، انعكاساته التي تولد تنوعاً في أشكال تنطيق فضاءات المبنى واجهاتياً؛ فان تلك الأشكال تضفي على عمارة المبنى، السمة "القلاعية" الراسخة، هي التي اختفت تأثيراتها منذ عقود عن مجمل نتاج عمارة الحداثة؛ ما يجعل من تمثلات عمارة مبنى التبوغ "البروتالية" الناجزة، حدثاً تصميمياً فريداً، مثلما ترتقي تلك العمارة لتكون ظاهرة استثنائية، أيضا، في أهميتها الأسلوبية.
ثمة، إذاً، كتل: كتل آجرية صماء، معمولة بصورة "فظة" بتعمد (زيادة في حضور الإحساس بـ "القلعة"، والقلاع!)، وهذه الكتل، تكتفي أحيانا بسطوحها المستوية الصلدة، المحفور بها فتحات النوافذ الطولية، واحياناً ترى تلك الكتل، وقد اتخذت فورماتها أشكالاً دائرية، يغالي المعمار في توظيف عددها الغزير في واجهة مبناه، على امل إكساب الأخير حضورا لافتاً في المشهد. لكن ما اجترحه المعمار من "طبقات"Lyres واجهاتية: متنوعة الملمس ومختلفة في اللون، التي عبرها "تتحول" واجهة المبنى ذي البعدين لتضحى ثلاثية الأبعاد، تضيف سمة خاصة إلى عمارة مبنى التبوغ، وتجعل من "فورمه" النفيس المتميز، شكلا لا يشبه البتة ما هو مألوف ومتداول تصميمياً في تلك الحقبة. وفي النتيجة فنحن إزاء تمرين تصميمي ممتع، يرتقي بمبنى التبوغ، ليكون احد أجمل مباني الستينات في العاصمة العراقية. بيد أن قرار تشييد سياج أصم حول المبنى مؤخراً، وبارتفاع عالٍ نسبياً، أفقد عمارة المبنى تأثيراتها المتوقعة حضريا ومعمارياً على البيئة المبنية المجاورة. فكثير من المتلقين، بل وكثير حتى من المعماريين، لا ينتبهون، وهم يسيرون بجانب حائط سياج "التبوغ"، بأنهم يتاخمون بمروهم اليومي، احد نماذج العمارة المميزة والهامة في المشهد المعماري العراقي، وكذلك الإقليمي.
والمعمار رفعة كامل الجادرجي (المولود في 6/12/ 1926 ببغداد)، انهى تعليمه المعماري في مدرسة "هامرسميث للفنون والأعمال" (1946-52) بلندن / المملكة المتحدة، عاد إلى العراق، واشترك مع عبد الله إحسان كامل وإحسان شيرزاد، في تأسيس مكتب "الاستشاري العراقي" (1953)، وانضم لهم، بعد ذاك، معماريون آخرون. قدر لغالبية مشاريع المكتب ان تمثل بعمارتها المميزة ولغتها التصميمية الحداثية، صفحات مهمة وناصعة في سجل المنجز المعماري العراقي. ومن ضمن تلك المشاريع: دارة كتخدا (1957) في العلوية، نصب الجندي المجهول (1959) في ساحة الفردوس (1959)، كلية الطب البيطري (1965) في أبي غريب، بغداد، دارة يعسوب رفيق (1965)، في المنصور ببغداد، مبنى التأمين (1966) في الموصل، مبنى اتحاد الصناعات العراقي عند ساحة الخلاني ببغداد (1966)، مشروع مسجد لندن (1969)، لندن /المملكة المتحدة (لم ينفذ)، مصرف الرافدين (1969)، في المنصور ببغداد، مبنى الاتصالات (1971) <بالاشتراك مع هنري زفوبودا>، في السنك ببغداد، دارة هديب الحاج حمود (1972) في المنصور ببغداد، بناية مجلس الوزراء (1975)، في كرادة مريم ببغداد، وغير ذلك من التصاميم المميزة، ذات الوظائف المتنوعة. أصدر الجادرجي عدة كتب تعاطت مع الشأن المعماري والفني والأنثروبولوجي مثل: شارع طه وهامرسميث (1985)، صورة أب (1985)، مفاهيم وتأثيرات: نحو أقلمة العمارة الدولية (1986)<باللغة الإنكليزية>، الأخيضر والقصر البلوري (1991)، حوار في بنيوية الفن والعمارة (1995)، ومقام الجلوس في بيت عارف آغا (2001)، جدار بين ظلمتين (2003) <بالاشتراك مع زوجته بلقيس شرارة>، في سببية وجدلية العمارة (2006)؛ الذي نال عنه جائزة زايد للكتاب (2008)، سبق ان حاز الجادرجي جائزة الرئيس لمؤسسة أغا خان (1986). وهو الآن منهمك في إعداد كتاب ضخم عن العمارة في البلدان الإسلامية. مقيم في بريطانيا منذ الثمانينات، ويتنقل في إقامته بين لندن وبيروت.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram