ليست مصادفة أن تكون باريس قبلة لكل محبي الإبداع والفن والجمال . باريس التي صارت حلماً لأغلب فناني العالم منذ ظهور الانطباعية ، حيث أصبحت المدينة الأهم والأكثر تأثيراً في حداثة الفن منذ بداية القرن العشرين . وهنا أود أن أقول شيئاً عن باريس ذلك الوقت حين اجتمع فيها أعظم فناني العالم ، ليرصعوا تاريخ الفن مثل نجوم ملونة بكل أنواع العبقريات وتطلق وقتها عليهم بما سميت بـ (مدرسة باريس ) . هؤلاء الفنانون الذين قدموا من أماكن مختلفة لأسباب فنية أو سياسية أو اجتماعية ، جاءوا وهم يحملون أحلامهم الفنية وطموحات أيامهم إلى باريس ، مدينة تولوز لوتريك وماتيس والانطباعيين . من غير باريس يستطيع أن يجمع في مكان واحد هؤلاء العباقرة الذين عبروا حدود بلدانهم ليدخلوا سحر ضوئها الذي لا يساويه شيء في ذلك الوقت . باريس التي كانت مركز الفن في العالم ، وقد تحولت إلى ما يشبه بيت كبير للتضامن مع الفنانين الذين جاءوا إليها . الوقت كان بعد الحرب العالمية الأولى والتكعيبية أخذت حدودها العالمية في الانتشار من خلال هذه المدينة التي كانت تضم في ذلك الوقت أجمل وأهم عشرين صالوناً للفن ، إضافة إلى مئة وثلاثين غاليري ، وهذه كانت بدورها تجذب وتجمع أعداداً كبيرة ومهمة لفنانين صنع مجدهم مبكراً كبابلو بيكاسو وغيره .
في بداية عشرينات القرن العشرين أطلق الناقد الفني أندريه وارنود ، تسمية مدرسة باريس على هذه المجموعة من الرسامين والنحاتين والكرافيكيين الأجانب ( غير الفرنسيين ) الذين دخلوا باريس وعملوا بأجواء بوهيمية وأنتجوا أعمالهم الفنية في مونتمارتر و مونتبارناس (بعد الحرب العالمية الثانية أخذت تسمية مدرسة باريس تطلق على كل الفنانين الذي عاشوا في باريس من الفرنسيين والأجانب ) . هكذا وبدون أي اتفاق مسبق جاء بيكاسو وكريس وغونزاليس من إسبانيا ومودلياني من إيطاليا وشاغال وسوتين من روسيا البيضاء وبرانكوسي من رومانيا ورسام المائيات يوليس باسين من بلغاريا وغيرهم الكثير ليصنعوا هذه الخلطة السحرية العجيبة التي كانت واحدة من أكبر وأهم المؤثرات التي حصلت في كل تاريخ الفن التشكيلي .
مدرسة باريس لم تنتم إلى أسلوب معين أو اتجاه محدد في الفن ولم يكن طموح فنانيها أن يرسموا أشياء متقاربة أو يقدموا أعمالهم بتقنية متشابهة . كانت أصولهم وجذورهم ورؤيتهم للفن مختلفة تماماً ، والشيء المهم الذي كان واضحاً بينهم والذي جمعهم هو باريس التي كانت بمثابة الخيط الملون الذي ربط قصة كفاحهم وسعيهم في أكتشاف فن القرن العشرين . وهنا لا يمكننا أن نقارن ذلك بالمدن التي ظهرت فيها اتجاهات أو أجواء فنية في ما بعد مثل مدرسة نيويوك ومدرسة لندن ، اللتين كانتا تضمان فنانين تجمعهم رؤية واحدة تقريباً وأسلوب متقارب وتقنية تنتقل من قماشة أحدهم إلى الآخر .
ومثلما اجتمع هؤلاء العباقرة ( من غير مصادفة ) في باريس ، فليس مصادفة أيضاً أن أفكر الآن بمدينة بغداد ، ليس لأنها لم تجذب الفنانين وصانعي الجمال من كل العالم ، بل لأنها شردت فانينها المميزين ومبدعيها الكبار أيضاً ، ووضعت ما تبقى منهم تحت الإقامة الجبرية لأنها قتلت فرصهم الحقيقية في البقاء على قيد الإبداع . لكن الأمور لم تنته عند ذلك أيضاً - وكأن ما حصل لفن وثقافة بغداد لم يكن كافياً لتدمير كل شيء - فنفس الباب الذي خرج منه الفنانون انفتح لدخول اللصوص الجدد ، لصوص الحياة والإبداع وما تبقى من جمال آفل لمدينة مثل مدينة السلام.
أتخيل الآن باريس حين كانت مثل مغناطيس جذب إليه كل ما هو جميل ولائق ، وأفكر ببغداد التي أصبحت مثل قنبلة انفجرت بقوة ، لترمي بشظايا مبدعيها إلى كل جانب من المعمورة.
فنّانو باريس وقنبلة بغداد
[post-views]
نشر في: 14 مارس, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
ابو اثير
عندما لا نجد مثل السياسي الشبيبي والسعدون والجادرجي والمفكر أياد جمال الدين والوردي واللغوي النحوي مصطفى جواد والمهندس المخزومي وسوسة والقاص عبد الملك نوري والربيعي والشاعر الجواهري والسياب والبياتي والطبيب السامرائي والبستاني والبحراني والمسرحي يوسف العا