القسم الأول
الحب والمخيلة ضدّا الموت وبين الحب والموت عماء الالتباس بين نور وعتمة وحيوية وركود ، فالموت هو الخلل الموجع الممتد بين الوجود و اللاوجود، ينازع الوردة شغف الضوء، والرغبة رعشة الريح ، حقيقته الأرضية ماثلة في عجزنا عن الحب بعجز مخيلاتنا ، فالحب إبداع مخيلة حية ووعي متفتح وبسالة إنسانية فقدناها في أيامنا هذه ، فاقتحم الموتَ شوارعنا ومخادعنا واختطف العشاق والصبايا والمسكونين بالأمل ،فعند غروب الحب غافلنا الموت واحتل لحظتنا وصار ينام على وسائدنا ولكن لا الحب استسلم للموت ولا الموت استثنى الحب .
لقد قالها جلال الدين الرومي "الحياة تآلف بين الأضداد وما الموت إلا قيام للحرب بينهما" أوجز الرومي المسافة بين الموت والحياة بكلمة التآلف التي تتضمن جميع معاني الشغف والتعلق والهوى والحب والعشق ،وها نحن نعيش الموت في حرب الأضداد ، فمن يعيد توازن الوجود وتآلف الأضداد المتناقضة ؟ ومن يعيد تتويج الحب ليتألق على عرشه المهجور ؟ لا شيء سوى الفن ، لا أحد سوى الفنانين ومبدعي الجمال وخالقي النغم ومدوني الحكايا ومؤسسي الروايات العظيمة ، تمتد إليهم أنساغ شجرة الحب الأزلية النابتة من نصوص عشاق سومر حيث منح الأدب الرافديني القديم صفة إلهية لنصوص الحب الجريئة ووسمها بالجلال والقدسية المطلقة ، فالحب هو البدء وسر الحياة وسبب ديمومتها ومفجر إبداعاتها الجميلة .
لبثت صورة الحب واحدة عبر العصور القديمة، لكنها اختلفت عند تحويلها إلى مصطلحات ومفاهيم للتداول فأحاطها البشر بجملة من الأوهام التي أفرزتها الفذلكات اللغوية والتخيلات والاستيهامات فللغة سطوتها على البشر وللخيال قدرته في ترسيخ صور محددة عن الأنشطة الإنسانية والرغبات والمشاعر ، لذا عمدت كل سلطة حاكمة إلى استخدام اللغة استخداما متعسفا لتقنين صور الحب عبر ما تشيعه من أوامر وما تسنه من قوانين تدعي أنها منزّلة من السماء ،فتماوجت صورة الحب القلقة وامتثلت في ظاهرها لسلطة الأديان والشرائع والمعتقدات حينا ، ثم تأطرت في كل عصر بحصيلة من خبرات الأفراد ونمط الثقافات السائدة التي تفرضها القوى الحاكمة حتى رسخ كل نظام سياسي ثقافته وطوّق الحياة الإنسانية بالطريقة التي تحفظ دوام هيمنته.
في القرن العشرين قبل الميلاد كانت مجتمعات وادي الرافدين وبخاصة المجتمع السومري تنظر إلى موضوعة الحب نظرتها إلى شأن مقدس متصل بالآلهة باعتباره نشاطا يفضي إلى استمرار الحياة والجنس البشري عن طريق رمزية اتصال الملك بالكاهنة العظمى في طقس الزواج المقدس لتتنقل قوة الخصب والوفرة رمزيا إلى البشر والكائنات الأخرى والطبيعة أجمعها .و لم يكن الحب مقسما بين حب دنيوي وحب مقدس بل كان مقدسا على نحو مطلق وكانت قصائد الحب والغزل تستخدم الاستعارات الرمزية من الطبيعة للتعبير عن جمال المحبوب كثمرة التفاح وحقول القمح وأعمدة الرخام، كما استخدمت استعارات البساتين والرياض كإطار جمالي لتصوير مشاهد الحب الساحرة في الشعر والمنحوتات.
وعبر آلاف السنين تغيرت صورة الحب المقدس تحت تأثير العقائد والديانات والفلسفات التي ظهرت في الشرق والغرب وتحكمت بسلوك البشر ومشاعرهم وتناوبت أو تقاطعت الفلسفة الطاوية مع المانوية والهندوسية والصوفية المسيحية والإسلامية في رؤيتها لصورة الحب وتأويلاتها له ، ثم أُقحِم الحب خلال الحقب التاريخية اللاحقة في أساطير القتال عندما طغى خطاب الحرب على فترات السلام القصيرة مابين الإمبراطوريات المتناحرة ،فتحول الحب إلى ما يشبه المعركة بين قناص وفريسة بقصد الإخضاع والتسلط على الضعيف المهزوم لتنبثق إثر ذلك النزعات الرومانسية رداً على الحب الفروسي.
الحُبّ من الزواج المقدّس إلى النزهة الرومانسية
[post-views]
نشر في: 15 مارس, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 2
نهى عبد الكريم
تتحفنا الاديبة الكبيرة لطفية الدليمي بثمة موضوعات راقية فيها من الفلسفة والمعاني الانسانية الممتدة عبر الاتاريخ الانساني اتمنى على من يقرأها ان يستنبط المعاني التي يمكن توظيفها في واقع اليوم لنتخلص من وحشيته المفرطة علنا نتخلص من شرك الحاضر المعتم ونقتنص
حسام العكيلي
اختي العزيزة الدليمي رغم صحة ماتقولين لكن هناك بعض الخلط بالمصطلحات ساهم في ازالة الحقيقة.. اولاً لم يكن الموت ممتد بين الوجود واللاوجود بل هو ممتد بين وجود ندركة ووجود لاندركة .كما لو فرضنا ان الجنين في بطن امه يعي واراد شخص ان يصف له هذا العالم عالم الد