(هنالك من يجلس على النهر صباح ومساء كل يوم، ويعشقه لكنه لا يستطيع كتابة حرف واحد). انا هو، أنا أكتب خواطر كثيرة لأفضي بما في داخلي من هموم. عزيزي: طالب صوّرلي (الچولان) وأريد صورة صريفة ينبعث منها دخان كثيف في يوم ماطر، أحب المنظر هذا، احب الحطب حين يكون ممطورا، وبالكاد يشتعل، دخان كثير يتصاعد منه قبل ان تلتهمه النار، أريد ان أسمع صوت بلبل في صباح يوم ما. أريد فانوساً أحمله في الليل أتفقد على ضوئه بيت الحيوان... وبأكثر من ذلك يكتب لي صديق بصراوي من أهالي مدينة الفاو يعيش الآن في الشارقة بدولة الامارات. هذا حنين قطع أحشاء القلب والله.
اكتب هذه القطعة لإبراهيم الرفاعي واستحضر معه غربة كثيرين غادروا مدنهم في الوسط والجنوب، كل منهم له شكواه ونجواه، لكن شكوى اهل الحضر ليست كشكوى أهل الوبر يقول ملاّح سفن هنا، حتى وإن سكنوا المدن الجميلة النظيفة، هنالك بوحٌ خفيٌّ لكل واحد من هؤلاء الذين خرجوا من بصرتهم، من بغدادهم، من أي مدينة كانت لهم الأهل والوطن والرفقة، ومهما تصوّر احدنا الغربة تلك لن يمسك بلحظة واحدة من من انسحاق أرواحهم وما يعانون منه، قد لا أستطيع فهم المعاني العميقة التي في طلب صديقي إبراهيم، وقد يظن البعض بان طلبا من قبيل إرسال صورة صريفة ينبعث الدخان رطبا من فروج سقفها بعد توقف المطر، أو حتى صوت بلبل يقف فرحاً على سعفة خضراء في بستان وسوى ذلك من المشاهد، لا يتجاوز في معانيه أبعد من نوستولوجيا تصيب أي مهاجر.
لكني أعرف إبراهيم الرفاعي فلاحاً، بصراوياً، خصيبياً لا يمتلك وعياً سياسياً، ولم تنبت في روحه بذرة للطائفية يوماً، وما الرفاعية فيه إلا نسب يتصل بزين العابدين بن الحسين بن علي بن ابي طالب قبل أن تكون زهداً وتعبّداً ومحبةًّ، لكنه هاجر لأن الرزق شح هناك، في الفاو، هو الذي قال لي: صوّر لي الچولان. أحب الچولان هذا، كان انقطع من ضفاف شط العرب هناك، بسبب الماء المالح، مات النخل والعنب والحياة صارت صعبة وأنت تعرف. بمثل هذه وأكثر يصف صعوبة العيش في مدينة جرّفت الحروب بساتينها، وتشدد البعض من اهلها فصاروا طائفيين، حين تدنّى الوعي المديني لديهم حتى بات الاسم تهمة توجب القتل. ومع ذلك كله وجدتُ انَّ إرسال صورة الجولان واجبُ حكمٍ علي، علني بالصورة هذه اردُّ عن الرجل غربته التي طالت، لا بل التي قد تطول اكثر.
ولمن لا يعرف(الچولان) بجيم أعجمية نقول هو نوع من الحشائش يشبه البردي إلى حدٍّ ما، كانت تنمو كثيفة جداً على ضفاف شط العرب والأنهر المتفرعة منه، وهو علف رخيص ونافع للأبقار والجواميس، تتخذه الخنازير الوحشية مكامن آمنة لها في شطآن الفاو والسيبة والواصلية وسيحان والقرى تلك، التي تمتد على طول شط العرب البالغ أكثر من 120 كلم في مشهد تتخلله بساتين نخل وغابات عنب وفاكهة غير منحسرة، كان أجدادي وأجداد إبراهيم وغيره من الخصيبيين يضفرونه حبالاً، يشدون بها ما تهالك من أخصاصهم، يربطون به سفنهم خشية أن يسلبها الموج، ينزلون به ما تعاظم من عذوق رطب البرحي والبريم والقنطار وما لذ من التمر، يربطون بها الوحشي من أبقارهم، وبها ينسرحون عميقاً في اللجة، هناك بين ضفتين بعيدتين حيث تتسع شباكهم سمكاً وأخشاباً ونوارس. كان إبراهيم يدرك معاني الحبال تلك.
بخيال من قصب ونوح يشبه نوح الثكالى من الأبقار والسلاحف والأشجار تناهى الي صوت إبراهيم، الذي التقيته في منزل أثري قديم بالشارقة كانت هيئة الثقافة والآداب في دولة الامارات قد اتخذته مقراً لها، في المنزل ذلك كان إبراهيم يتلمس خشب المقاعد والأرائك والأثاث ومصاريع الأبواب، يمرر أصابعه على النقوش المنفلتة من عناية النجّار، معترضاً على صف المسامير، حركة المسند، يحرك بحسب مشيئته ما تعامد سقوفاً وتطاول خزائن ومحامل هنا وهناك. ما يريده ابراهيم الرفاعي كان حبلاً طويلاً سأظل أضفره مدى الدهر، لن تنفد وشائجه أبداً، حبلاً يصل البحر بالشط الغريب وحتى إذا ما بلغت به خياله ذات يوم سيطويه على خصره قافلاً، عائداً على موجة صمّاء الى البصرة.
حبال إبراهيم الرفاعي الطويلة
[post-views]
نشر في: 15 مارس, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
ابو اثير
أستاذي البصراوي الكريم .. كلما أقرا مقالاتك أرجع ألى الوراء وبألذات عام1970 من القرن الماضي عندما كنا في أحضان البصرة الحبيبة نقضي شهر عسلنا وكيف كانت البصرة بربوعها الخضراء الجميلة وبساتين التمر والعنب وجداول مياه الخصيب وساحة أم البروم وشوارع المعقل وسو