مأتم العزاء الذي أقيم على روح الملحن المعروف الفنان طارق الشبلي يمنح متتبع واقع الثقافة والفنون والآداب في العراق صورة حقيقية، هي صورة البؤس والإهمال والهجران والاحتقار حتى، والتي تتبناها الدولة ضد الحراك الثقافي عموما، منذ سنين عديدة، وما صورة مجلس العزاء التي أقيمت على روح الشاعر الرائد محمود البريكان سنة 2002 أي قبل سقوط النظام، عنا ببعيدة، لا بل المشهد واحد من قبل ومن بعد ذلك بكثير.
الفرق بين المشهدين يكمن في أن حكومة النظام السابق كانت تدّعي عبر وسائل إعلامها بأنها راعية وداعمة للثقافة، على الرغم من يقين الجميع بإهمالها وسخريتها منها، فيما يتضح موقف الحكومة الحالية من خلال برامجها وخططها المبهمة حيال الثقافة، بل يتضح أنها تسعى سعياً خبيثاً لتقويض الفسحة المضيئة المتبقية من أرواحنا ووعيناً باعتمادها ثقافة من نوع آخر، هي ثقافة الخرافة والتجهيل والشعوذة والتي انتجت خرابنا الكبير هذا، بما جعل من كل حديث في العلم والحب وقيم الجمال سخرية داخل مجالسهم، حتى باتت النظرة للشاعر والمسرحي والفنان والموسيقي والعازف والراقص أحطَّ ما يذكرونه ويتندرون به.
قبل عامين من مرض الفنان الشبلي أقامت له منظمة البصرة للثقافة(مجتمع مدني) حفل تكريم اقتضى حضوره وتقديم بعض من ألحانه، لكنه فاجأ أعضاء المنظمة بصعوبة جلب العود معه، وعدَّ إخراج العود من بيته أمام جيرانه منقصةً له ولأسرته، حتى قال قولته الشهيرة: ( صرنا عار عوائلنا) في إشارة إلى أن الفنان خرج من دائرة الاحترام الاجتماعي ونزل إلى الدرك الاسفل، حتى بتنا نتحدث بأحاديث مثل: هل يقْدِم خاطبٌ ما على الزواج من ابنة الفنان والمطرب ؟ أو هل هنالك من يزوج ابنته من موسيقي، عازف على العود او الكمان؟ وقد انسحب الحديث على استحالة ذلك على المسرحي والممثل والمخرج وكل من يحمل هوية ثقافية. والويل كل الويل لمن كانت أحدى قريباته او أقربائه، راقصة، راقصاً في فرقة للفنون الشعبية !
الغريب في القضية هنا، أنه ومنذ ان ارتفعت صورة رجل الدين المُشتغل في السياسة، او ما اطلق عليه بالإسلام السياسي وارتفعت معه صريحة كل صور الدم والقتل والتخريب والفساد خلال العقد الماضي انحدرت صورة المثقف والثقافة بعامة، في التصور الشعبي إلى المستوى هذا، حتى بتنا لا نمتلك أجوبة شافية لأسئلة منطقية جداً، بل جاز لنا أن نقول بان العقل الاخلاقي العراقي أصبح في موقع الاتهام، ذلك لأن سلوكاً من هذا النوع خرج عن معايير الفهم والإدراك العقلييَن، وأصبح بحكم اليقين أن قوة الغيب والخرافة تمكنت من قهر قوة العقل والحكمة، على خلاف القاعدة التي تقول بان العصر الحالي إنما هو عصر العلم .
والأكثر غرابة في ذلك كله أنْ ليس بيننا من يمتلك القدرة على إقناع الغالبية الكبيرة بوجوب إيقاف فعل منتجي الطائفية والإرهاب من خلال زج الغيب والخرافة التي يأتي منها سلوك الاسلام السياسي في قفص الاتهام، بل لا يجرؤ كثيرون على التصديق والمجاهرة بالحقيقة الكلية التي تقول بان ما أصابنا وما نعاني منه اليوم، وبعد مضي عشر سنوات على خلاصنا من الدكتاتورية إنما هم موضع اتهامنا، وان الحكومات المتعاقبة على الكراسي الكبيرة في بغداد والمدن الأخرى وراء ما وصلنا اليه لا الثقافة والمثقفين.
لم يكن طارق الشبلي سعيداً في حياته، لكنه كان واثقاً من السعادة، لم يكن غنياً، قاتلاً، لصاً، وهو حال المئات من منتجي الوعي والجمال بل كان حتى وفي مواسم ميتته اكثر بؤساً وحزناً على الرغم من عشرات الالحان الجميلة التي اطلقها بيننا، ونحن نرى انه، سوى معزين بسطاء، لم يحضر احد من كبار الساسة لمجلس عزائهم، عزائنا. لكن العشرات من السيارات الخاصة والحكومية ومعهم المئات من رجال الحمايات تجدها واقفة، مصطفة قبالة مجالس عزاءات الذين خربوا وقتلوا وسلّبوا ودمروا .
عود طارق الشبلي ومأتم الثقافة
[post-views]
نشر في: 18 مارس, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...