يتوج الشاعر " شوقي بزيع" في ديوانه " فراشات لابتسامة بوذا" الصادر عن دار الآداب عمق العاطفة بعقلانية أنجبتها فلسفة بوذا القادرة على منح الصورة الحياتية اتزانها، خصوصا في بلاغة شاعر متيقظ يتأمل غموض التعابير التي تنسكب من لحظة شعرية
يتوج الشاعر " شوقي بزيع" في ديوانه " فراشات لابتسامة بوذا" الصادر عن دار الآداب عمق العاطفة بعقلانية أنجبتها فلسفة بوذا القادرة على منح الصورة الحياتية اتزانها، خصوصا في بلاغة شاعر متيقظ يتأمل غموض التعابير التي تنسكب من لحظة شعرية تعتمد على حضور الحس الفني، وتجليات المجاز المضاف إلى معنى ملموس مادي في جسد القصيدة مثل " مرايا المجاز المضاف إلى الجسد الأنثوي" إذ يحيلنا " شوقي بزيغ" في هذه القصيدة إلى حوار ذاتي يتميز بانعكاسات للحظة عشق أبدية ، شبيهة بعشق القصيدة المكتوبة التي تحيا على الأوراق في برزخ الحياة بانتظار قيامة بلاغية تشق عنها أكفان اللغة وبلاغة المعنى لنكتشف في كل قراءة لديوان " شوقي بزيع"" فراشات لابتسامة بوذا" معنى ًمتجدداً مع الأبعاد التي وضعها ضمن المشهد البانورامي الذي لا ينقصه إلا اكتمال القصيدة بكامل بهائها الشعري " لم يكن ينقص المشهد البانورامي ذاك سوى طيف تلك الفتاة.
أسبغ " شوقي بزيع " على ديوانه صفة الحرف المتيقظ أو بوذية المعنى الفلسفي داخل الحرف المنسوج في كلمة كالفراشة الملونة . تتلون تبعا لعمرها الزمني. لأن فراشات بوذا هي محصلة مقاربات سردية حكائية، لملامح لغة شفيفة ذات ألوان أدبية تختلف فيها الصور المتخيلة بمختلف الجوانب الفنية التي تعتمد على انسكاب المطر الشعري في لحظات فجائية تنهمر فيها الرؤى" هناك حيث الثرى ينشق " فالتجاوز والتحاور الذاتي في أكثر القصائد يمنح جمالية خاصة تتسرب إلى عمق المتلقي ، فيحاور نفسه أو بالأحرى يتقمص المعنى بلا وعي، متخذا من الشك ممحاة . لتنحني اللغة بطواعية ومرونة يؤلفها بتدرج متنام من البداية إلى البداية وفق استدارة تعيد القارئ من النهاية إلى البداية ، وهذه الحركة النامية في ديوان شوقي هي بمثابة قوله " كنت من نفسي أؤلفها" وأيضا " فوق عقم السؤال؟. لأنه يحاول ان يجعل من ديوانه معجزة شعرية تصيب القارئ بعقم جواب لا سؤال له. لأنه اعتمد على العصف الذهني ذي الدلالات اليقينية، لتتولد الصور التخيلية تبعا للقارئ.
تستأثر النهايات بعناصر المراوغة الفنية المحفزة لإعادة قراءة القصيدة بدءاً من النهاية التي من شأنها بث إيحاءات غير متوقعة، تثير دهشة الحواس، ليحقق البناء الصياغي المتماسك موضوعيا وحدة الإيقاع وتنوعات النغمة، وكأنه يتلاعب بموسيقى المعنى وضربة الحرف الواثق من نفسه ، كالتاء والسين في قصيدة توزعت فيها النقاط على الحروف، لتتبادل الأدوار مع أضدادها ثم يقول بمأساوية بعدها " محوتها لأضلل المعنى، وسميت البراعم أخوتي" لتأتي النهاية بداية فصلية لشتاء لم يأت بعد، وتتحضر له القصيدة خوفا من شتاء سينعكس ببرودته وحرارة ثلوجه عليها " ولربما مرَّ الشتاء ولم يجدني"
إن التتابع السردي المختزل مع الشعري المجزأ إلى نغمات إيقاعية ينتج عنها ترادف وتماثل في لحن كلمة " تلك" " تلك المياه المستردة من عوالم لا تفارقنا مغائرها/ تلك المياه المستقاة من الذؤابات الندية للتشهي /تلك المياه المستعادة من سماوات مزينة بآلاف النجوم/ تلك المياه الأم سوف تواكب الأحلام في جريانها عبر العصور." وكأن" ترنيمة الماء" هي مزيج من تجانس وتضاد، وتلاحم تنبعث منه نغمات موسيقية ذات إيقاع بديعي تتصدر الطبيعة عذوبته . كما يتصدر عمق المعنى الصور الفنية التي يربطها شكلا ومضمونا بالدلالات اللفظية، وبعيدا عن التكلف. مما يولد تفاعلات وجدانية مع القارئ الذي سيحلم دون جدوى بالرجوع إلى الوراء. ليعيد قراءة الديوان محتفظا بالصدى الشعري والأحاسيس العميقة ، المتفاوتة في تأثرها من " استعارات ملائمة" نتجت عن تآزر فني متماسك، وتكوين بنائي ترتقي فيه المعاني إلى الأعلى، كنسر يحاول تجنب السقوط ليؤلف ديوانه من خلال كلمة " مصبها الأبدي " على ورق في ديوان تتجسد فيه الفراشات كفكر مستنير حاضر ذهنيا في كل صورة خيالية وذهنية وشعورية. يحكمها الجمال الفني المرتبط نفسيا بحالة الشاعر، والروح العالقة في جسد كل معنى أراد له الخلود.
بقول الشاعر شوقي بزيع:" إن القصيدة قائمة على تعذر قيام القصيدة" إن لحظة البدء التي اغتالت الشاعر، وتركته يتبادل الأدوار مع الأضداد قبل أن يولد الديوان مبتسما . أو بالأحرى مستنيراً بمحو الشك مستعينا بالحركة المتمثلة بالماء التي ترتجل مصبها الأبدي، وبالقطارين في " نظرات يائسة " حيث الإيحاء التصويري للمشهد الدرامي يشد المخيلة، لمتابعة كل حركة تتسرب إلى الوجدان بروحانية الشعر المخصب، المنصهر ببلاغة تنبجس عنها معادلات مبنية على الأنا والقصيدة والطبيعة ، ودائما هذه الثلاثية هي ميزة الشاعر " شوقي بزيع" المولع بتشبيه يحذف منه الأداة تاركا " تنوصان" تؤدي دورها في الاندماج مع الحواس كلها وصولا للروح ، لبث الإيحاء المتكامل مع التأثير غير المباشر على القارئ وحالته الانفعالية التي تتشكل مع الكلمات الزاخرة بتشبيهات تعبيرية " كمعزوفة حاكها بخيوط الصبابة /نول العروق الخفي/ وظلت تكرر أنغامها الغفل /خلف حقول الزمان." ان الصور التخيلية في كل قصيدة أضاء فيها استنارته الشعرية هي لوحة تصويرية درامية ذات تعبيرات أتقن حبكها بإيجاز حكائي ذي أبعاد مختلفة شعريا ، أحاطت بالديوان ومعانيه ، ومنحته بلاغة عميقة الدلالات كشفت عن مكنون مشحون بالجمال.
يتماهى " شوقي بزيع" مع الأضداد بتمازج المعاني، تاركا التعبير الافتتاحي معلقا أو بالأحرى مقيدا بحرف جر في اكثر القصائد التي يتألف منها الديوان المشبع بشمولية الوجوه الفنية المتعددة من ملامح سرد حكائي إلى مجاز مضاف، ومحذوف، وتصوير مشهدي يتميز بدرامية الفعل المؤثر على مناخات التراكيب التي يصعب فك ألغازها. ليترك ديوانه مفتوحاً على تأويلات نقدية متعدة، ولندرك بؤرة التفاعل الثلاثي النشط بين القارى والشاعر والكلمة ، فيخفي نسيج النص الشعري بافتراضات غامضة لا تفصح عن مدلالولاتها. إلا بالترميز الشكلاني الذي يأتي كومضة فجائية تتواءم مع القارئ والشاعر سواء، فنشعر ان القصيدة تولد ولا تموت في كل مرة تتم قراءتها " وحده الإنسان ظل واقفا، واتخذت مقابض الأبواب شكل: لا" ليؤكد بذلك على أهمية البنية الجمالية للقصيدة الفجائية التي لا تفصح عن ذاتها أو أبعادها. لأنها تتشكل كالفراشات من شرنقة ملفوفة بغموضها التكويني إلى فراشة تحاول فك لغز الوجود مع تيقظ الوعي، واشتعال العاطفة ونفحة الوجدان العابق بانصهارات تستثير الحواس الفنية المصقولة " بهدوء التماثيل يجلس، فيما الزمان ينام على ركبتيه كطفل صغير، وتلهو الفراشات نشوانة، عند مرمى ابتسامته الخالدة."
نبرة فلسفية يتحدى بها موت الطفل فيه، مستخدما أداة الجزم المرتبطة بسكون رمزي يعيده إلى العدم المثير. لنشوة الوجود التي يفتقدها، فبعض المؤشرات البلاغية هي نفسها مؤشرات تتطور حتى تصل إلى الذروة " فوق الأكف،كأننا ظلان للكدر الذي يعرو جبينك، أين أنت الآن؟ هل تفكر بي وأنت مطوق وسط الزحام بغابة الأيدي الظليلة". فالحامل والمحمول يتناقض مع الأنا الوجودي ، والنفي لموت ابدي ، فهل يولد الطفل عند موت الأب ؟.أم ان اللغة هي الشريان النابض لقصيدة لا تنوء بمن يقرأها؟. ربما نشعر بقيمة الحياة ، واحتساب الوقت الحركي لعقارب ساعات الزمن حين نعجز عن النهوض ، ونشعر بثقل المعنى المؤثر على انفعالات القارئ. في هذه القصيدة ذات الدلالات والتشكيلات الأسلوبية المتنوعة ، والمختلفة من حيث التكوينات الجازمة ، الظاهرة السيميائية المؤثرة نفسيا ، والنابعة من خصوصية ذاتية لها موضوعيتها اللغوية والبلاغية المشحونة بوجدانيات تترجم الوثبات المتعالية عن الجراح، وعن القبول والرفض الجميل مستخدما لا في " مرثيتان لأبي " فإذا انتهى إلى قبضة الإعصار لا ينتهي العطر" وبين ينتهي ولا ينتهي نقلة للعلا بصفة نسر ينهد " كلتا جناحيه ولو سقط النسر " ليبدأ الديوان من حركة سقوط إلى " تحت الحياة تماما ، ثمة أودية مجهولة" وفي الاستدارة نقطة شعرية ضوئية لا تنتهي في المعنى المرسوم ضمن ابتسامة لرجل متيقظ كبوذا يبحث عن استنارة أخرى لقصيدة " ألفت القصيدة نفسها " أو أن " تتبادل الأدوار مع الأضداد".