كثيراً ما أقضي يومي في البيت، لا أغادره إلا لأمر ما، وإن ضجرت من القراءة والكتابة ألجأ للحديقة حيث أشغل نفسي بهذه او تلك من المشاغل و غالبا ما أتجول وأميس بين النخل وما اشتجر هنا وهناك، أو آخذ خطاي إلى النهر، داخل بستاني الصغير، هناك بهجة وفرح من نوع خاص، وقد أضفى الربيع والنوروز والأيام هذه على المكان بهجة مضافة تجعل التجوال هذا شيئاً مما تطيب به النفس وتسعد بمنظره العين.
مفاجأة جميلة جعلت من سروري كاملا العام هذا، فقد أزهرت شجرة الانتيكوما التي أورقت في الرياض بالمملكة العربية السعودية قبل أربعة اعوام. تلك التي جلبتها معي بالطائرة، سعادة ما بعدها من سعادة هي شعورك أن ما تتفحصه وتمعن النظر فيه كل يوم، وانتظرته اعواماً، استجاب لنداء روحك فأزهر وأثمر، لا بل وأكثر من ذلك، أنك تجد أن السعادة هذه غير مكلفة، حتى وإن كنت فقيراً، لا تملك من خزائن الأرض الوسيعة قنطاراً. هل كانت السعادة بضعة زهرة صفراء؟
ولأن الربيع السنة هذه كان اطول منه في السنوات السابقة، أو هكذا بدا لي، فقد وجدت أن الحديث عنه يستدعي الشعر، الذي لم يعن لي منذ شهرين تقريباً، فمشاغل البيت والأولاد والوضع العام للبلاد، يولدان فقرا في الخيال ، ويقلصان من مساحة التأمل لدى المشتغل بالفكر والوعي والجمال، لكني غالبا ما أحاول التملص من أسر ما تعاظم في الروح من ضيم وتأفف فانصرف للقلم والورقة ، علني أفلح في كتابة قصيدة اتوازن بها مع ما اضطرب وماج من حولي. كانت شجرة الانتيكوما التي اقتلعها من واديه بالدرعية، في المملكة العربية السعودية، الصديق العزيز عبد الرحمن الصالح(أبو نواف) موضوعاً يستحق الشعر. كتبت القصيدة، خلصت منها وهي على صفحتي في فيسبوك الآن.
في العام 2009 صحبة وفد ثقافي وإعلامي من البصرة، كنت في زيارة خاصة للمملكة، وبعد جولات وليال ثقافية ولقاءات مع أدباء ومثقفين سعوديين في مدينتي جدة والرياض والمدينة المنورة خلصنا إلى زيارة مكتبة الملك عبد الله بن عبد العزيز واللقاء بأمينها العام فيصل بن معمر الذي دعانا لزيارة بيته، قصره( المتحف) وهناك كانت دهشتنا اكبر، كان البيت متحفاً عراقيا بحق، فقد كانت مقتنيات الرجل من الاعمال التشكيلية، النحتية والزيتية والفنية العراقية ما ليس في حوزة عراقي آخر. ولعل أغرب ما وجدت هناك مفاخرة رجل سعودي بعمر تجاوز السبعين بأنه يمتلك أكبر مكتبة صوتية عراقية على الاطلاق. في السويعات التي أمضيناها في المتحف ظل الحديث عن عراق آمن قوي جميل فوق كل حديث في التشدد والإرهاب. لا بل لم نسمع كلمة من أحد كلمة تغضب. وساعة حانت صلاة الظهر كنت اكثر أصدقائي إحراجاً لأننا كنا نغنّي ونصفّق مع الفنان الكبير مجيد العلي (يا بو بلم عشاري....)ترى ماذا سنقول لهم لو أنهم انتظموا صفوفاً للصلاة، لكن ذلك لم يحدث، بل لم يذهب واحد منهم للصلاة حتى حل المساء وأقمر الليل.
في العام 2010 كنت مدعواً لمهرجان الجنادرية بالمملكة مع نخبة من أدباء ومثقفين عراقيين وفي فسحة آيلة من الوقت دعاني العزيز أبو نواف لرؤية بستانه في قرية الدرعية وسط الرياض، هناك أشعرني كما لو أني في بستاني بابي الخصيب، فسائل برحي وأشجار سدر وسواقي ممتلئة بالماء، سماد حيواني وأبقار وصوت بلابل وأطيار لكني اخترت من ذلك كله شجرة ذات ازهار صفراء كثيفة، فكانت الذكرى منه. طوال اللحظات التي امضيتها هناك بقيت مستغرقاً في خيال هو مزيج من ما تراكم في البال من تدخلات سعودية إرهابية ظلت وسائل الاعلام تنقلها الينا وبين سلوك حضاري لمسؤولين كبار في الثقافة، لا بل ومن خلال احاديث جانبية مع مسؤولين في المملكة.
حين كنت أتجول في البستان الجميل الظليل بأشجار النخل والفاكهة، بستان أبي نواف بالدّرعية، القرية التي ولد فيها مؤسس الوهابية محمد بن عبد الوهاب، كنت أجاهد تفادي صورة أخرى للمكان، هي خيال من سيارة تنفجر وسط شارع ببغداد، او سيف يقطع رأساً في سوريا، او دم مسفوح على الإسفلت، وكتاب يمعن في الكراهية، لكن صورة الزهر والربيع والنوروز كانت اكبر وأجمل.
من الرياض الى البصرة
[post-views]
نشر في: 22 مارس, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
مهند البياتي
اعتقد ان هذه المقاله هي لابن البصره و ابو الخصيب السيد طالب عبد العزيز