في الوقت الذي نظن فيه ان الحياة ابتسمت لنا وعاد المحبون إلى ديارهم نكتشف أنها عادت وأدارت لنا ظهورها مرة أخرى وكأنما ترفض ان ترى عيوننا بلا دموع وصدورنا خالية من الأحزان .انتظر الأب عودة ابنه بعد سنوات طويلة من الغربة ... لكن الضرر كان قد سبق ا
في الوقت الذي نظن فيه ان الحياة ابتسمت لنا وعاد المحبون إلى ديارهم نكتشف أنها عادت وأدارت لنا ظهورها مرة أخرى وكأنما ترفض ان ترى عيوننا بلا دموع وصدورنا خالية من الأحزان .انتظر الأب عودة ابنه بعد سنوات طويلة من الغربة ... لكن الضرر كان قد سبق الجميع ... ولم يستطيع الأب ان يحضن ابنه مرة أخرى ! غرق (م) في نهر دجلة وكأنه مكتوب عليه ان يعيش وحيدا ويموت وحيدا ... (م) شاب جميل ومتعلم .. لم تمض على ولادته سوى ستة اشهر ... حتى توفيت أمه ليعيش اليتيم مبكرا طفلا رضيعا ... وتتولى الجدة مع الجد بدلا من الأم رعايته وتربيته ! ومضت الأيام ... وتزوج الأب من زميلته وسافرا خارج العراق للعمل ... كان بإمكان الأب عند وصول (م) للسن القانونية ان يأخذه من جدته .. لكنه تنازل عن حقه حتى لا يحدث هوه نفسية للابن لارتباطه الشديد بجده وجدته. وسارت الأمور في هذا الاتجاه ... إلى ان توفيت الجدة والجد قبل أيام ويلحق بهما الحفيد (م) مات غرقا بين أصدقائه ! القصة من بدايتها يحكيها لنا والد (م) حيث يعود بالذاكرة إلى الوراء اكثر من عشرين عاما ... حيث تزوج عندما اصبح مدرسا وتخرج من احدى الكليات وأثمر الزواج عن إنجاب طفل هو (م) لكن للأسف الشديد لم تدم السعادة طويلا ... فلم تكن تمضي اكثر من ستة أشهر على الإنجاب حتى مرضت الأم ووافتها المنية ويصاب الأب بحزن شديد وفي تلك الظروف الصعبة تولت الجدة أم زوجته مع الجد رعاية الطفل الصغير ... وتمضي الأيام مسرعة وإذا بالطفل يصبح شابا وطالبا في كلية التربية الرياضية ... يكرس نشاطه للرياضة وكلاعب أساسي في فريق الكلية ... وتذوب المسافات بين الأب والابن ،فالأب كان يشعر بالسعادة عندما ينظر إلى ولده ... فها هو (م) اصبح رجلا يمكن ان يعتمد عليه عندما يرجع من القرية .ويتذكر الأب ما حدث الليلة التي سبقت الحادث فنقول انه اصطحب ابنه إلى عدة دوائر حكومية لإكمال معاملة لديه في عملية شراء بيت له ولإخوته ... كدت اشعر بالأمان وهو يسير بجانبي ... كلما أنظر إليه أجده قد كبر واصبح أطول مني ... بات رجلا يشد من ازري ويصد عني أي خطر أتعرض إليه ... ثم توجهنا مع زوجتي وإخوته الصغار إلى بيتنا القديم في الكريعات وبقي معنا من الساعة الثانية ظهرا ووعد أشقاءه ان يحضر عصرا يصحبهم إلى النهر ... ولكنه للأسف الشديد لم يأت ... لقد ابتلعته مياه نهر دجلة ... وفق ما ذكر احد أصدقائه انهم توجهوا إلى جرف النهر بالقرب من بيت مهجور ونزلوا جميعا إلى النهر وبعد دقائق تعرض (م) وزملاؤه للغرق ... لقد خرج أصدقاؤه من النهر أمام (م) فلم يكتب له النجاة ولقي ربه .. وقام زملاؤه بإخبار الشرطة النهرية ... اتصل بي احد الضباط وطلب مني الحضور ولم يذكر لي ان ابني قد توفي مشفقا علي من الصدمة واكتفى بذكر انه في المستشفى ... انطلقت مسرعا وقد استبد بي القلق ... وكم كانت صدمتي مروعة عندما علمت بوفاة ابني (م) تحجرت الدموع في عيني ... ودارت الأرض بي ... اظلمت الدنيا ... ولم أدر ماذا افعل في مواجهة هذا الحادث الجلل ... وهداني الله للاتصال بالأصدقاء وإخوتي ليتولوا ترتيب استلام الجثة ودفنها ! ويضيف الأب : ان مصابي كبير فقدت ابني وسندي وادعو الله ان يرحمه ويسكنه الجنة ... فلقد كان شابا طيبا محبوبا من الجميع من أشقائه الصغار ومن أهله وزملائه في الكلية ... وفي النهاية يقول : كل إجازة ... آتي إلى مكان غرق ابني في الكريعات ... ارتباطي بابني بالذكرى ... أحضر إلى الشاطئ وأجلس على ضفتيه وعند البيت المهجور أذهب بنظري بعيدا إلى النهر أعاتبه ... يا نهر الخير لماذا تخطف أعز الأحباب ؟ ولكنه القدر الذي لا رادّ له .
