من اوراق الراحل رشيد الرماحيفي الخمسينيات كنت مديرا لمكتب وزير الداخلية وكان من جملة واجباتي ان احمل رموز المخابرات السرية التي كان يصار اليها فيما تقتضي الظروف عدم الافصاح عنها وعن محتوياتها الا للوزير!وكانت هذه المخابرات لا تتقيد باوقات الدوام الرسمي حين يتهيأ لمرسليها انها لا تحتمل التأجيل لذلك كنت اتسلم عددا غير قليل منها في اوقات متأخرة من الليل سواء في البيت او في النادي الذي اكون متواجدا فيه.
وذات ليلة تسلمت برقية رمزية اكتشفت بعد فك رموزها ان مدير سجن بغداد قد اصطحب معه بعض مساجين الاحكام الثقيلة الى ملهى ليلي صيفي اسمه (ليالي الصفا) في جانب الكرخ فصعقت عند قراءة المضمون ولم استطع المضي في قراءة بقية المضمون الا بعد ان اعدت قراءة البداية من جديد ثم استعدت هدوئي ومضيت في قراءة التفاصيل الاخرى فاذا بي اقرأ ان السجناء بعد ان دخلوا حديقة الملهى يتقدمهم مديرهم الرائد (الرئيس الاول) علي احسان نشأت رفضوا الجلوس احتراما لمديرهم وظلوا واقفين وهم يرتدون ملابس السجن فلفت ذلك نظر المتواجدين وحصل لغط مسموع ادى الى تجمع رجال الشرطة الموجودين واستدعاء اخرين حتى تم القبض على المساجين مع مديرهم من دون مقاومة او تمنع واعيدوا مخفورين الى السجن بصحبة مديرهم الذي لم يظهر عليه طول الطريق انه قد قام بفعل غير طبيعي او انه ارتكب اية مخالفة قانونية.وفي الصباح صدر امر توقيف المدير وسيق الى محكمة الجزاء (الجنح) كما صدر امر وزاري باحالته على التقاعد. ويبدو ان الحاكم (القاضي) انذاك لم يجد في تصرف مدير السجن ما يدل على سوء النية وان عمله لم يسفر عن هرب مسجون او اي ضرر مادي آخر فاكتفى بالحكم عليه بغرامة (30) دينارا. اما بالنسبة للاجراء الاداري فبعد ان صدر قرار احالته على التقاعد طلب مني رئيس الوزراء آنذاك ارشد العمري ان احضر الموما اليه امامه في مكتبه في ديوان مجلس الوزراء وقد اصطحبته معي بالفعل ولما دخلنا مكتب رئيس الوزراء نهض من محله ووقف امامنا وظهره الى مكتبه ثم خاطب الرجل قائلا: هل قرأت من قبل روايات ارسين لوبين فأجاب بكل جدية: نعم يا باشا.فرد عليه رئيس الوزراء وهو غارق في الضحك وانا بدوري قرأت ايام صباي مثل هذه الروايات ولكني على ما اتذكر لم اجد قصة تشبه الحكاية التي قمت انت بها ولهذا السبب قررت عدم اتخاذ اي اجراء آخر بحقك. فخرجنا وكلانا غير مصدق وانهال علي الرجل بالقبلات من شدة فرحه. وعلمت فيما بعد انه قصد السجن مباشرة وودع كافة نزلائه ثم عاد الى بيته وكأن هذه الحادثة كانت فاتحة خير في حياته اذ اصبح بعد سنين قصيرة من رجال الاعمال المرموقين.
من الماضي القريب
نشر في: 4 أكتوبر, 2009: 05:37 م