حين رأى البروفيسور "بييرتيليه" الاستاذ في السوربون بباريس، لوحات الخطاط العراقي محمد سعيد الصكار، قال دونما تردد: ان هذه الاعمال تجعلني اشعر بالاسى لانني لم اتعلم الخط.. العربي او اللاتيني"!نعم، انت امام خطوط بارعة كهذه تأسى لنفسك، لكنك تمتلئ بهجة حي
حين رأى البروفيسور "بييرتيليه" الاستاذ في السوربون بباريس، لوحات الخطاط العراقي محمد سعيد الصكار، قال دونما تردد: ان هذه الاعمال تجعلني اشعر بالاسى لانني لم اتعلم الخط.. العربي او اللاتيني"!
نعم، انت امام خطوط بارعة كهذه تأسى لنفسك، لكنك تمتلئ بهجة حين تأخذك الالوان المختارة بعناية، والنقوش الدقيقة، وسحبات الالف واللام والكاف، في رحلة حسية نادرة، في ما بين عبارة اثيرة، وخط جميل، وتصميم مبكتر، تتمازج جميعها، في تناسق لا يمكن الا ان يشعرك بالمتعة.
عرفت الصكار قبل 40 عاماً بل اني عرفت خطوطه قبل ان اتعرف اليه شخصياً.
كان من عادتي، وانا طالبة في المدرسة الثانوية، ان ازور المعارض التي كانت تقام في متحف غولبنكيان للفن الحديث ببغداد، فقد كانت بناية المتحف في الباب الشرقي، لا تبعد عن مدرستنا سوى امتار.
وذات صيف في مطلع السبعينيات، شدني معرض كان اسمه "الخط الابيض" على ما اذكر، وقد كانت اللوحات فيه تحمل من الرقة والعذوبة ما دفعني الى التوقف امام سجل الزيارات، لأول مرة في حياتي، لأكتب كلمة اعجاب بما شاهدت.
بعد اشهر، وعندما انتهت سنتي الدراسة الاخيرة في الثانوية، انتسبت الى قسم الصحافة في جامعة بغداد، وذهبت في الفترة نفسها لاعمل محررة متدربة في جريدة "الثورة" لأجد مفاجأة سعيدة بانتظاري.
كان صاحب المعرض الذي سحرتني لوحاته، يعمل في الجريدة نفسها مديراً للقسم الفني.
وبدأت صداقتي مع الصكار، تلك الصداقة التي لم تنقطع خيوطها بالرغم من مرور سنوات كنا نتباعد فيها، في مدن مختلفة أو مدينة واحدة شاسعة.
كانت بغداد، في تلك الفترة من اوائل السبعينيات، زهرة "رازقي" بيضاء، ينبعث اريجها الى سابع جار، وكانت منتدياتها الادبية والفنية، ومعارضها، ومهرجاناتها، خير اطار لعلاقات انسانية من طراز رفيع ونادر، وقد كانت الصداقة مع الصكار اشبه بالصداقة مع جنح فراشة ملونة، فيها من الرقة والترف ما يجعلك تتكلم معه على اطراف اصابعك.. وتسير الى جانبه بصوت كالهمس..
نعم، كان ولا يزال فناناً رقيقاً جمع عذوبة اهل "الخالص" ورهافة اهل "البصرة" وسكب كل ذلك في فنه. فتحولت القصبة بين أنامله الى ابرة تخرم الورق بما يشبه تطريز "الدانتيل".
انه يطرز الخطوط الكوفية، والديوانية، والطغراء، وينتقل بالمهارة ذاتها الى الخطوط الحديثة، بل يتفوق فيها نظرا لقدرته الفذة على الابتكار والتي كانت وراء التوصل الى انماط بين الخطوط الجديدة، ابهاها ذلك الذي اطلق عليه اسم "كوفي البصرة". والذي كان يزور الصكار في مرسمه القريب من جادة الشانزليزيه، تطالعه لوحة جديدة انتهى من العمل فيها تواً، تحمل كلمة وحيدة بليغة هي: "سلام".
لكن الصكار لا يترك الخط سجين اللوحات المؤطرة، بل يلذ له انه ينشره بين الاصدقاء، وان يحط به فوق وسادة حريرية، او بطاقة تهنئة، او غلاف كتاب، اوملصق جداري.
كانت بطاقاته تأتيني ملونة انيقة بدونما مناسبة كانت هي المناسبة، فاذا فتحت بريدي ووجدت خطاً جميلاً يقول لي: "صباح الخير" جعلت من نهاري ذلك عيداً.
ولا شك ان وجود الصكار في باريس. قد اضاف لفنه مواد جديدة من جهة، وشحنه بالحنين من جهة ثانية، فصارت اعماله متفوقة في تنفيذها المادي، وغنية بمحتواها العاطفي والروحي في آن.
ان "ابا ريا" يسكن حروفه، مثلما هي تسكنه، وانسان فنان مثله يعرف، عندما تتسع فسحة الاشتياق، كيف يجعل من النون وطناً يحتمي به من لفح الاغتراب.