في سبعينيات القرن الماضي أطلق الشاعر والفنان العراقي محمد سعيد الصكار مشروعه المثير للجدل " الأبجدية العربية المركزة" وهو أول محاولة لإدخال الحروف العربية في الكتابة الإلكترونية وكسر قيود الحرف العربي وتطويره بما يتلاءم مع معطيات التحديث في الطباعة ا
في سبعينيات القرن الماضي أطلق الشاعر والفنان العراقي محمد سعيد الصكار مشروعه المثير للجدل " الأبجدية العربية المركزة" وهو أول محاولة لإدخال الحروف العربية في الكتابة الإلكترونية وكسر قيود الحرف العربي وتطويره بما يتلاءم مع معطيات التحديث في الطباعة القائمة على أسس علمية متطورة ،وأبجدية الصكار اختصرت وكثّفت عدد الحروف العربية الطباعية معتمدة على جذورها المشتركة. حيث أن هذه الأبجدية لم تعد لها حروف أولية أو وسطية أو متطرفة .
أسئلة الغياب
*محطات كثيرة مرت بحياتك في المدن والحواضر المختلفة وكنت تخفق بأكثر من جناح: بالرسم والشعر والخط.. أين كانت محطاتك الأساسية بعد البصرة، تلك التي كنت تركن إليها بذكرياتك الجميلة، لأصدقاء مروا أم لأعمال فنية تركتها؟
-من الناحية التاريخية، المدينة التي أقمت فيها وارتحت إليها بعد البصرة هي دمشق وهي من المدن العزيزة على قلبي، وفي عام 1957 كنت لاجئاً سياسياً فيها، وقتها كنت في موسكو ضمن وفد للمشاركة في مهرجان للشباب، وبعد عودتنا عرفنا أن أسماءنا السرية كُشفت لدى النظام الملكي في بغداد، ففضلنا أن نبقى لاجئين في دمشق.. وعملت هناك معلماً في حارة اسمها قرطانية وبقيت هناك حتى قيام ثورة 14 تموز 1958 في العراق، حيث أُستُدعينا من قيادة الثورة في العراق فعدنا.. وبعد هذه المدينة بدأت أسفاري الكثيرة والمختلفة وكل مدينة تترك في داخلي شرارة ربما تنطفئ وربما تتوهج، ويمكن أن أقول الآن: الخالص بداية علاقتي بالمدرسة والبصرة شبابي وتكويني ودمشق وعيي السياسي ثم باريس التي لها ثقل كبير عليّ.. ربما تتساءلون لماذا لم أذكر بغداد! لدي قصائد كثيرة عن بغداد، لكن عندما أتحدث عن البصرة فأعنيها جغرافياً وتاريخياً وثقافياً، وعندما أذكر بغداد في قصائدي فأنا أعني العراق. وذكرياتي في بغداد اتسمت بالوعورة والصعوبة، خاصة وأن وضعي كان في حالة اندفاع وطني ومجابهة السلطات والاعتقالات والاختفاءات، وأحسست أن البصرة كانت أكثر رأفة بي مع ما واجهت فيها من مواقف سياسية كثيرة.. أما باريس فقلت فيها مرة:
وباريس إنْ طال الحديثُ فكوكبٌ
يعز علينا مثله في الكواكبِ
لها في حنايا بؤسنا ونعيمنا
مواقف لم تترك مجالاً لعاتبِ
فكيف سأنسى للحبيبة فضلها
وصورتها ما بين خدي وحاجبي
باريس حمتني من أول يوم وصلتها وأنقذتني من مصائر لا أعرف مداها...
*سيبدو مفاجئاً أن نراك بهذه الرقة والشاعرية والحميمية والرهافة وأنت المعارض العنيد للدكتاتورية، كيف يكون هذا "النحيف" هو نفسه "القوي " أليست في هذا مفارقة ؟
-والمفارقة الأخرى هي أن لقبي الصكار !!
*ما هي المــــــــواقف الصعبة في حياتك.. ما أبرزها؟
-أصعبها هو ردود الفعل عن الأبجدية العربية المركزة التي ابتكرتها والحديث في هذا الموضوع يطول، لكني سأقف عند أبرز المحطات فيه: كانت هناك نية أن تُنشأ في مدينة الكوفة جامعة أهلية وفكرت في أن أقدم لها هدية، فقررت أن أهدي لها خمسين لوحة تتضمن كل تاريخ الخط العربي، ووجدت أن من المفيد أن أكتب كراساً أشرح فيه الدورة التاريخية التي مر بها الخط العربي، وعندما وصلت الى نقطة (الخط العربي والمطبعة) توقفت قليلاً لأنه عندنا 29 حرفاً و28 صوتاً لغوياً يقابلها 29 شكلاً لهذه الأصوات وهذه الـ 29 متأتية من حرف الـ (ألف لام) وهو حرف بلا شك ويروي التاريخ أن أبا ذر الغفاري سأل النبي محمد صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله كل نبي بم يُرسل؟ قال: بألف باء تاء.. قال: كم حرفاً قال: 29 حرفاً فقال أبو ذر: إنما هي 28 فغضب النبي واحمرّت عيناه وقال: يا أبا ذر والذي بعثني نبياً لم ينزل على آدم إلا 29 حرفاً من بينها ألف لام وهذا حرف أنزله الله على آدم وبين يديه 70 ألف ملك...وهذا يشير بوضوح إلى أن هذا الحرف هو حقيقي، وما يهمنا من الموضوع هو عندما أرادوا تصميم الحرف العربي على مطبعة غوتنبرغ كان العاملون في هذا المشروع هم من الهولنديين والإيرانيين والفرنسيين والهنود والأمريكيين والإيطاليين وهؤلاء كلهم غرباء عن طبيعة اللغة العربية وعن طبيعة شكل الحرف العربي، فقد قاموا بالرجوع الى المخطوطات العربية التي تعتمد على تاريخ الكتابة العربية، إذ لا يوجد لدينا خط عربي قبل الإسلام، وهؤلاء الغرباء عن اللغة العربية من المصممين الأجانب لم يجرؤا على التصرف بشكل الحرف العربي لأنهم لا يعرفون دلالته ولا بعده الروحي ولا امتداداته الغيبية، فاضطروا للّجوء الى المخطوطات العربية فنقلوا ترف المخطوطات في أول تصميم للحرف العربي فعملوا لنا 1600 شكل وأول كتاب طبع في ألمانيا هو كتاب (القانون) لإبن سينا على منضدة حروف فيها 1500 خط، وكانت هناك محاولات لتقليل تلك الأعداد حتى سنة 1800 عندما بدأ الشماس عبدالله زاخر باختصار تلك الحروف الى 900 وبعدها قام أحد الصحفيين والصناعيين العارفين بالمهنة وهو كامل مروّة فقلص العدد الى 90 شكلاً فقط .
أسئلة الخط
*ما هي مقاييس الإبداع في الخط العربي وكيف يستثمر في اللوحة التشكيلية ؟
-الموضوع يقوم على سياقين : سياق الخط الكلاسيكي التقليدي وسياق الخط التجديدي وهذا عمره قصير بعمري الفني ، فقبلي لم يجرؤ أحد على اختراق شكل الحرف التقليدي ..الخط الكلاسيكي مبني على قواعد دقيقة ومنضبطة جدا ويجب على أي خطاط أن يجيدها ويجيد مدارسها وقواعدها وما عدا ذلك فهي اجتهادات ؛ هذه القواعد والضوابط لا تسعفك ولا تعطيك أي مفتاح للوصول الى شخصية الفنان ما لم يكن هناك توقيع ، يعني إذا كان هناك نص يُخط بخط الثلث وفق القواعد التقليدية ، وقد خطه اثنان من الخطاطين فلن تجد فيه فرقاً على الإطلاق ، وإذا حدث فرق فإن ثمة خللاً في الأداء ، من هنا أنك لا تستطيع أن تتبين مواطن الإبداع الفردي لكنك ترى مواطن الإبداع الإجمالي الكلي والمعطى الأخير لهذا الفن. الزاوية الأخرى التي يمكن النظر للإبداع من خلالها هي أنه بما أن القواعد نفسها عند الخطاط العراقي والسوري والمصري فمن أين تتأتى للّوحة الخطية التي تحتوي خطاً وليس لوحة حروفية إلا من خلال تركيب الكلمات؟ وهذه كفاءة ذاتية من الخطاط وإحساس بقيمة التوازن الصوري للحروف ولدينا من هذه النماذج ما يبهج القلب ، فهناك متعة روحية وبَصَرية تركتها لنا كوكبة من الخطاطين المجيدين المبدعين ..
*هل من تنوير إلى فن التركيب الحروفي ؟
-لم يبلغ أي خطاط عربي ما بلغه الخطاطون الأتراك في فن التركيب ، إلا من استثناءات قليلة ، إضافة الى ضبط قواعد الخط بمنتهى الروعة والقوة ، كما أن الأتراك هم الذين أضافوا الخط الديواني، والديواني الجلي والرقعة والسنبلي وتوقفت الإضافات منذ سنة 1800 ومنذ ذلك التاريخ لم يُضَف أي نمط جديد قبل أنماطي الأربعة وأنا أول مَن أضاف الى تاريخ الخط العربي أشياء لم تكن موجودة في تاريخ الخط هي: الخط العراقي والبصري والنباتي وخط كوفي خالص ..أما الفرس فبقوا في إطار الخط الفارسي الذي تفرع منه خط كتابي أسموه "الشكستة" ويعني المكسّر ويستعمل للكتابة اليومية..
*ادّعى الفنان الراحل جميل حمودي بأنه هو الذي أدخل الحروفية الى اللوحة التشكيلية ..كيف نفهم منك هذا الإشكال التاريخي ؟
-الموضوع متنازع عليه تاريخياً بين الفنان حمودي الذي كان في باريس وبين الفنانة مديحة عمر التي كانت في ذلك الوقت تدرس في أمريكا .. أنا شخصياً أعرف أن هناك لوحات فيها محاولات ساذجة غير مقصودة باستخدام الحرف ؛ لكن ما حصل هو أن بعض الأفكار جاءت على هيئة حروف ، الأمر الذي أغرى أستاذ الفنانة مديحة بأن يشجعها على هذا اللون الفني فصار الحرف يحضر في لوحاتها ، وحمودي كان يسير بالاتجاه نفسه، وعندما اصدر أحد كتبه وضمّنه بعض اللوحات الحروفية التي رسمها في الأربعينيات ، طلع رأي خبيث ، وآمل أن لا يكون مدسوساً على الرجل ، بأن حمودي أضاف حروف الأربعينيات الى بعض لوحاته التي تلت تلك المرحلة ، فإذا صح هذا الرأي فالريادة تكون لمديحة عمر.
*ما هو الحرف الذي تحبه أكثر من غيره ؟
-سؤال جميل ودقيق ، لكن من الصعوبة الإجابة عليه لأنه يتغلغل الى الجانب الأدائي الذي تؤديه اليد من ناحية ومن ناحية أخرى الصوت الذي أسمعه عن هذا الحرف وثالثاً الأبعاد الثقافية لهذا الحرف ، بمعنى أن هناك دلالات على أي حرف ، وباعتقادي أن كل الحروف جليلة القدر ، وليس هناك فضل من حرف على حرف ، لكني أتعامل مع الحروف بمودة.
*أحد الخطاطين يعتبر حرف "الراء" من أصعب الحروف؟
-والمعروف أن الخطاطين يعتبرون حرف "الحاء" تاج الحروف ولكن من ناحية الأداء يبدو لي حرف لام ألف هو المفضل لأن فيه حركة مختلفة ..فيه حركة استقامة ثم انحناء إلى اليسار ثم صعود ونزول وانحناء الى اليسار وحركته مثل حركة "الياء" .
*لام ألف كما يبدو هو كلمة في النهاية ؟
-فيه حركة وهذا شرط من شروط حروفي الجديدة التي ينبغي أن تكون فيها حركة واضحة ، ومن جملة الحركات التي تأسرني هي حركة التزلج على الجليد والباليه .. توجد حركتان في التزلج : عندما يندفع الراقص الى الأمام بعلو لاحظوا أن رجله تبقى الى الخلف بغرض التوازن ولكنك تبقى مشدوداً الى الحركتين وتأسرك الحركة المرتدة الى الخلف ونهوض الراقص وعلوه من ناحية أخرى ..فكيف أجد صيغة لحرف بهذه المواصفات ! لام ألف ساعدني في هذه النقطة واستفدت منه في التركيب فتشعر أن ثقل اللوحة الى الأسفل وهناك جزء منها يصعد الى الأعلى ..أنا أستثمر الصمت الموسيقي في الحروف .. يعني هناك أداء موسيقي معين يقتضي فترة صمت خفيفة إما باختصار الأدوات وإما بصمت مقصود ومن ثم الانطلاق ، وبهذه الصيغة حققتُ لوحات كثيرة . حولت الصمت الموسيقي إلى فراغ مرئي .
هذا الحوار سبق أن نشر في ملحق (عراقيون) الخاص بالفنان الراحل والذي صدر عام 2010 وأجرى اللقاء وارد بدر السالم