حكايات الفنانين لا تنتهي أبداً ، واهتمامهم بأنفسهم وعالمهم الشخصي يفوق في الغالب اهتمامهم بما حولهم ، لذا يراهم البعض يميلون إلى النرجسية أو الفردية العالية وهم يعكسون على سطوح أعمالهم ونتاجاتهم الفنية ، ذواتهم وميولهم وولعهم الغريب بأشياء تبدو متطرفة وغير مألوفة أو حتى غير مرغوب بها . كل هذا لأن الفنان شخصية مركبة وصعبة وفريدة في أغلب الأحيان وتميل إلى الذاتية كثيراً . ألم يقطع فان غوخ أذنه في لحظة صعبة واحتدام غير مفهوم مع نفسه المضطربة ، وكذلك فعل صديقة غوغان حين ترك أضواء باريس ومتعها المدهشة وراءه وذهب إلى تاهيتي ، ليعيش حياة بدائية وهو يبحث عن ضوء الطبيعة وسمرة النساء هناك وزخرفة ملابسهن الملونة ، التي تكاد تكشف أكثر مما تغطي أجسادهن شبه العارية ؟ وهكذا فعل لوتريك حين واجه قصر ساقيه بالبحث عن المومسات وبنات الهوى وهو لا يتوقف عن احتساء الكحول . لكن وجهة الفنانين ليست مأساوية دائماً ، وتحمل أيضاً في جوانب كثيرة وجهاً مشرقاً ومحباً للحياة ، كما عاش الفنان كيس فان دونغن وسط حفلات باريس ونسائها الأرستقراطيات أو سلفادور دالي وهو يعلن شهرته وحبه للمال الذي تجاوز ربما حبه لغالا نفسها ، لكنه لم يتجاوز حبه لنفسه على أية حال ، هو الذي قال ذات يوم وهو بصدد تعريف العبقرية ( هناك ثلاثة أشياء يجب أن تتوفر في الشخص لتجعله عبقرياً ، وهي أن يكون الشخص إسبانياً ويحب امرأة اسمها غالا وأن يكون اسمه سلفادور دالي ) . مرت هذه الحكايات والتفاصيل في ذهني وفكّرت بخطواتي وأنا أعبر جسر السلاسل في مدينة بودابست ، تخيلت قدماي تسيران فوق خطوات النحات العظيم يانوس مارشالكو حين كان يعبر نفس الجسر بسعادة غامرة وثقة كبيرة في النفس لا تخلو من الطرافة ، رفعت رأسي متأملاً الأسود الرائعة التي نحتها هذا الفنان من الحجر وأنا أستعيد حكايته . ففي سنة 1885 كلفت بلدية مدينة بودا وبلدية مدينة بيست – حين كانت بودابست مدينتين وليس مدينة واحدة - هذا الفنان بإنجاز تماثيل لأُربعة أُسود يوضع كل اثنين منها على جهة من جهتي الجسر . أنهى الفنان عمله بشكل مدهش ووضعت التماثيل في مكانها . كان فخوراً بهذه الأعمال بشكل لا يصدق ، وكان يردد بصوت عالٍ في كل مرة يعبر فيها الجسر ( هذه أعمال عظيمة ، لا يستطيع فنان آخر أن ينحت مثلها ) ، بعدها أخذ يردد باستمرار ( إذا وجد أحد ما ، نقصاً في التماثيل ، فسوف أرمي بنفسي في نهر الدانوب ) . في نفس الوقت كانت هناك مجموعة من الفنانين الذين لا يحبون طريقته المتعالية ، فأخذوا يتفحصون تماثيل الأسود كل يوم ومن كل جانب ، إلى أن اكتشفوا أنه قد نسي الألسنة ، فليس هناك أي أسد له لسان من هذه التماثيل !! ، فأخبروه بذلك وأشاعوا الخبر بين الناس ، فحضر فناننا إلى الجسر بسرعة تحيطه مجموعة من الأهالي والفنانين ، عندها لم يستطع أن ينكر ادعاءهم هذا ، فصعد على حافة الجسر ورمى نفسه في الدانوب ...... لكن لحسن الحظ ، فهو كان يعرف السباحة ! أما نحن ، فلندع فناننا النرجسي يانوس يجفف ملابسه المبللة بعد أن يعبر الدانوب إلى جهته الأخرى ، لنفكر أن الحياة نفسها - كما الفن – فيها أشياء وتفاصيل مدهشة وممتعة وجميلة ، هي حولنا على كل حال وقريبة منّا ، فلنحاول أن نكتشف مناطق الجمال فيها رغم مأساوية أيامنا والغبار الذي يغطي ساعاتنا.
بين نرجسية الفنان وفرديته العالية
[post-views]
نشر في: 28 مارس, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...