لا ينكر متابع ما حققه حزب العدالة والتنمية من انجازات اقتصادية لتركيا. كما ليس ممكناً إنكار نجاحات الحزب برئاسة الثنائي اردوغان- كـول، على صعيد توسيع وتعزيز العلاقات التركية - العربية والاقليمية، والاندفاع ببعض التدابير الممكنة للاقتراب من اوروبا، لع
لا ينكر متابع ما حققه حزب العدالة والتنمية من انجازات اقتصادية لتركيا. كما ليس ممكناً إنكار نجاحات الحزب برئاسة الثنائي اردوغان- كـول، على صعيد توسيع وتعزيز العلاقات التركية - العربية والاقليمية، والاندفاع ببعض التدابير الممكنة للاقتراب من اوروبا، لعلها تلين فتقبل الدولة الشاذة من حيث هويتها الدينية، في المحفل الاوروبي.
وقد بلغت تركيا في عهدهما درجة من التطور والنمو، و" حسن السلوك " الديمقراطي في ظل " حكومة اسلامية " يقودها حزب اسلامي، قدم نفسه للعالم بوصفه نموذجاً للإسلام السياسي، الذي يراعي المعايير الديمقراطية في الحكم، وينأى عن " تجيير " الدولة ، بقوة " السلطة " وأدواتها وأجهزتها، لتجريدها عن هويتها المدنية. وبعبارة سياسية محددة، أراد بنهجه في الحكم ان يدلل على امكانية الجمع بين " دولة مدنية " و" حكومة اسلامية " يشكلها ويقودها حزب اسلامي، دون إخلال بالآليات الديمقراطية، ومصادرة إرادة المجتمع، بغض النظر عن الأكثرية التي يحرزها الحزب الحاكم في الانتخابات.
وعلى صعيد متصل، حرص حزب العدالة والتنمية بقيادة اردوغان وكول على تأكيد ان نهج الحزب الاسلامي في الحكم ما هو الا تجسيد لـ " الوسطية " والتسامح ورفض التشدد في الاسلام . وقد شاءت الاوضاع والظروف السياسية التي تزامنت مع حكم الحزب، ان يحقق اردوغان نجاحاتٍ تكرس تلك الصورة الزاهية التي دشن بها الحكم على اكثر من صعيد، فالاقتصاد التركي شهد نمواً امكن من خلاله الانتقال من حالة التضخم والإنهاك الى التطور والنمو بمعدلاتٍ قياسية وضعته على خارطة الدول المتقدمة. والعلاقات التركية مع جوارها والاقليم العربي، انتقلت الى مستوى تحالفات بلغ بعضها حد " المصاهرة السياسية والاقتصادية". وفي اتجاه الجمهوريات التي انفكت عن الاتحاد السوفيتي ، تعدت علاقات تركيا خطوط التعاون البيني الى المشاركة على قاعدة "القومية " واللغة والأواصر التاريخية. وفي مستوى آخر عميق التأثير، غزت المسلسلات التركية البيوت العربية، بدءاً من الخليج مروراً بالأمصار كلها، لا فرق بين البيوت " المحجبة " او الموشحة بالسواد، متخطية الطوائف والمذاهب والملل، وصارت لأبطالها وبطلاتها صور في البيوت وغرف النوم وبين طيّات الكتب المدرسية. واجتمعت هذه العوامل في حقيبة " سياسية " واحدة لترمز الى حكم اسلامي رشيد!
وقد شهدت العلاقات العراقية التركية في ظل التوأم السياسي - الاسلامي اردوغان - المالكي ازدهاراً ملحوظاً، لم يضعف الأواصر بينهما، اختلاف المذهب، او اللغة، فالاسلام والنموذج في البلدين، يُشيع مناخ تصالحٍ يُدفئه الاسلام السياسي، بمقاصده الكبرى، حيث التأكيد على ان الاسلام هو الحل، ولا تعارض بينه ومطامح الشعوب في نظام ديمقراطي يجري تداول السلطة فيه بسلاسة، وشراكة بين الإرادات المتنافسة، وفي أجواء بناء وتكريس مؤسسات الدولة الديمقراطية، دولة المواطنة والحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية في ظل " التآخي الاسلامي".
ومثل كل الصروح " المصطنعة "، سرعان ما عصفت أحداث " الربيع العربي - المهرّب "، بالهياكل التي حرص عليها اردوغان في تركيا، كما السيد المالكي في العراق، وإن باختلافٍ في الأساليب والتدرج الزمني، لتكشف عن زيف الادعاء المرائي، وبطلان المفاهيم، وانحرافٍ في النهج والسياسات، والتناقض بين المبادئ والقيم الديمقراطية، ومطامع اغتصاب السلطة بأدوات اسلامية مشوهة.
وكشفت تطورات الربيع العربي الأقنعة التي تمطّت تحتها وجوه القيادة الاردوغانية، فكشفت عن ضلوع كامل في مخطط دولي اخواني، مسنود من الولايات المتحدة الاميركية ودولٍ اوروبية، ومدعوم باموالٍ قطرية سائبة، لوضع البلدان العربية والاسلامية، تدشيناً بمصر، تحت ولاية خلافة اخوانية عربية - تركية. مهد لها، ربما دون دراية مسبقة او تخطيطٍ مترابط، إجهاض الانتفاضة الديمقراطية السورية، وتحويل سورية الى ساحة صراع للفرق " الجهادية " بسيوفها وقفاطينها المستوردة، ومفاسدها ضد تطلعات السوريين التوّاقين لبناء دولة وطنية ديمقراطية، لحمتها المواطنة الحرة المتساوية بين فسيفسائها المكبوت في زمن الإلغاء والاستبداد.
انحيازات اردوغان الفظة، الخالية من اعتبارات احترام حدود الدول، واللياقات الدبلوماسية، الى جانب الاخوان وحكم المرشد في قصر الاتحادية، ضد ارادة الشعب المصري، صارت معروفة، لطابعها العلني، المتنمّر، وهي انحيازات سبقتها تدخلات في الشأن السوري ما كان لها ان تحمي السوريين، بقدر محاولة مصادرة قرارهم وإخضاعه للمصالح التوسعية التركية التي فضحتها ممارساتها لاحقاً، وهي الى حدٍ ما مشابهة، مع اختلاف الظروف والبيئة السياسية وطبيعة الصراع الدائر بين القوى، لمحاولة مد اليد الخاطئة الى الشأن العراقي.
لكن الجوهر في المستور الذي انكشف في " النظام التوفيقي " الذي حاول تسويقه اردوغان وحزبه الاسلامي، بين الدولة المدنية والحكم الاسلامي، تمثّل في سلسلة الفضائح التي تناثرت لتدلل على التناقضات التي تنخر وتتحكم في توليفة حزب العدالة والتنمية، والاستعصاء الذي يتبدى فيها، وهو يحمل مزاعم حماية أركان الدولة والحفاظ على مؤسساتها، واحترام إرادة الشعب، وتجنب التطاول على الرأي العام وفضاءاته الحرة.
لقد بات اردوغان مكشوفاً، بوصفه طامعاً بسلطة، كما انكشف فيه زعيم دولة القانون في العراق، الذي لم تعد في ظله حرمة للقانون . ولم يعد يبالي اردوغان بالحفاظ على سلطته باعتماد كسب المجتمع التركي من خلال صناديق الاقتراع، بل بالوصول الى هذه الصناديق عبر بوابات غير شرعية بالمفهوم الديمقراطي، ومن خلال التضييق على فضاءات الحرية المتاحة خارج قيود السلطات والحدود ما بين الدول . وتبين بوضوح التناقض التناحري بين مطامع اردوغان السلطوية ومقاومة المجتمع المدني التركي، وقد حاول اردوغان حل التناقض لصالحه، متوهماً بتجاوز طابع هذا التناقص الموضوعي، عبر اتخاذ قرارات فض التظاهرات والاعتصامات الاستنكارية في ميدان "تقسيم" بخراطيم المياه ثم الغازات المسيلة للدموع وقوة شرطة مكافحة الشغب، والتلويح باتخاذ اجراءات تأديبية غير مسبوقة ضد المتظاهرين، وفي شن حملات الاعتقال واجراء التنقلات بين سلك الشرطة ومحاولة تقييد القضاء والعبث باستقلاليته، والعديد من التدابير والاجراءات التي لا يجمعها جامع بالنظام الديمقراطي. وكان في اساس كل ما تحكم بسلوك اردوغان المنفلت، فضائح الفساد التي طالت قادة ووزراء ومقربين واقرباء لهم بمن فيهم اسرته المباشرة، وهي فضائح فساد توالت على قادة حكم العدالة والتنمية، وكشفت عنها اجهزة الشرطة والقضاء!
بعد ان انكشف المستور عن فساد حزب العدالة والتنمية، وبان اردوغان حامياً ومدافعاً عن الفاسدين، في مواجهة خصمه وعرّاب سلطته ونفوذه السابق رجل الدين التركي المعروف فتح الله كولن، لم يعد امام اردوغان سوى ان يتجرأ في حجب خدمة " تويتر " ثم اطفاء شاشة " يوتيوب "، والبقية في الطريق، كلما اقتضت مصلحة " صون الديمقراطية " على طريق " الاسلام هو الحل ".
في هذا الجو المكفهر، المكرب لتجربة حكم فريق الاسلام السياسي، تنطوي المقاربة بين تجربة الحكم في كل من تركيا والعراق، على دلالات نافعة في اتجاه واحد: ان الفساد وسوء النية والاستقواء بالسلطة، والتلاعب بالاسلام وقيمه وتوظيفها لمقاصد لا علاقة لها بالاسلام، هي لعبة لا مذهب لها!
الفساد والارهاب توأم.. لا دين له ولا مذهب..!