TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > بعد التجوال بين لافتات دعاة "ما ننطيها" والشعارات المرائية:صوّت بنعم لمن لا عشيرة له غير الوطن..!

بعد التجوال بين لافتات دعاة "ما ننطيها" والشعارات المرائية:صوّت بنعم لمن لا عشيرة له غير الوطن..!

نشر في: 30 مارس, 2014: 09:01 م

حصانة الدول وسيادتها الوطنية ليست تحصيل حاصل لا علاقة له او ارتباطاً بعوامل واشتراطات، غير الضمانات الأممية التي تعترف بها كياناً مستقلاً ذا سيادة واستقلال، لحظة قبول انضمامها الى الاسرة الدولية كعضو كامل في الامم المتحدة. ولا يكفي هذا الانضمام والاع

حصانة الدول وسيادتها الوطنية ليست تحصيل حاصل لا علاقة له او ارتباطاً بعوامل واشتراطات، غير الضمانات الأممية التي تعترف بها كياناً مستقلاً ذا سيادة واستقلال، لحظة قبول انضمامها الى الاسرة الدولية كعضو كامل في الامم المتحدة. ولا يكفي هذا الانضمام والاعتراف لحماية الدول من أشكال التدخل الخارجي، وتطويع اوضاع داخلية لمصادرة قرارها وتطويع إرادتها، وتجريدها فعلياً من تقرير مصيرها، وتحديد سياساتها وتوجهاتها في سائر ميادين السيادة.

وتخضع الدول، تبعاً لمدى التزامها بالمواثيق الاممية والمبادئ التي تبرمها في اطار منظمة الامم المتحدة، المظلة الدولية للتعاون بين اعضائها، لمتغيراتٍ تضعها احياناً في مرمى العقوبات والحصار، واحيانا أخرى تحت تهديد العقوبات الاقتصادية، أو المواجهة بوسائل الحرب في اطار الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة.
والعراق من بين الدول الحديثة التي اجتازت هذه المراحل، منذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة في عشرينيات القرن الماضي، وخضعت لتجربة الاحتلال والوصاية الدولية، وقضم السيادة من خلال السيطرة غير المباشرة، بالدخول في منطقة النفوذ الإسترليني وحلف بغداد. لكن المرحلة الأكثر تأثيراً والأقسى على العراقيين ومصير العراق وسيادته، ارتبطت بالسياسات المغامرة التي انتهجتها الدكتاتورية منذ سبيعينيات القرن الماضي، وتدشينها سلسلة حروب داخلية ضد الشعب الكردي، ثم الانتقال الى حروبها الخارجية مع ايران، فاحتلال الكويت وإجهاض انتفاضة آذار، وصولاً الى ما آلت اليه البلاد من دمار وتخلفٍ وانهيار اقتصادي، وتدمير للثروة البشرية والبنية التحتية وهي ثمرة عقود من الاستثمار والبناء.
ولم تكن البيئة السياسية والاقتصادية التي تشكلت بفعل ذلك، سوى التمهيد الموضوعي لتحول العراق، بعد ان اشتد الخناق عليه، داخلياً بادوات الاستبداد وخارجياً بالحصار والعزل السياسي، الى كيان منتهك والانقضاض عليه، واسقاط النظام الدكتاتوري، وفرض الاحتلال رغم معارضة العراقيين، والقوى السياسية المعارضة للنظام السابق، وبضمنها تلك التي أيدت شن الحرب ضد نظام صدام حسين بوسيلة التدخل الخارجي.
ان اي محاولة للبحث في المظاهر الفاضحة للتدخل الخارجي في الشأن العراقي، المكشوفة منها والمتسترة، أو المموهة بصيغ طائفية أو مذهبية، تتطلب اخذ الحال التي انتهى اليها العراق كمدخل، وحاملٍ للادوات السياسية التي باتت تتحكم في تقرير موازين القوى، والمؤثرات الصادمة والمعيقة لمعافاة الحياة السياسية وضمان استقرار البلاد.
فالسيادة الوطنية فقدت شروط حمايتها، منذ انهارت الدولة وتفككت وحداتها الضامنة، وانحل الجيش تحت ثقل جريمة النظام المستبد، ومغامراته، واستبيحت الحدود العراقية، لتصبح ممرات آمنة لدخول قوافل "الجهاديين" العابرين بحرية وأمان من الدول المجاورة، وهم يحملون الموت والخراب لسكانه العزّل، وبوابات خروج دون مساءلة من جيش الاحتلال لقادة وكوادر النظام المنحل، وطواقم القتلة المطلوبين للمساءلة.
وكانت تلك اللحظة الفارقة، بين السيادة والفوضى، وهي لحظة يصبح فيها العامل الخارجي، بغض النظر عن الإرادة الوطنية، "صانع قرارٍ داخلي بامتياز"!
 (٢)
إن الفضاء السياسي للعراق بات مستباحاً، ليس بفعل تلك العوامل فحسب، بل لان البنية السياسية كانت قد دُمرت وتفككت على مدى عقود وتعاقب الأنظمة الدكتاتورية، مع استيلاء حزب البعث على السلطة بانقلابه الدموي في ٨ شباط عام ١٩٦٣. وقد انتهج صدام حسين طوال حكمه سياسة تصفية الاحزاب والقوى والتنظيمات السياسية، وافرغ حتى حزبه، حزب البعث العربي الاشتراكي، من عناصر كينونته ليتحول الى اداة مخابراتية وتابع له بلا ارادة. إن سياسة التصفية الجسدية والسياسية والفكرية، التي استخدم فيها الدكتاتور كل ادوات وميراث القمع شديد الافراط، أدى الى "تحلّل" كل طاقة المجتمع على "الدفاع الذاتي" وتصديع جدران الحماية الوطنية، والذود عن القيم والمفاهيم التي كرستها الحركة الوطنية في الوجدان الشعبي. ولم يعد غريباً لدى الفئات العليا، ثقافياً وسياسياً، استمراء بدائل أو تبريرات "للمبادئ" و"الحصانة الوطنية" خارج الأطر التي اعتاد على التشّرب بها. ومن بين اكثر هذه البدائل "تفريطاً" اعتبار المنفى "وطناً"، وإعادة صياغة مفهوم "الوطن"، خارج سياقاته التاريخية، كأرض وحدودٍ وثقافة وحضارة ممتدة في التاريخ الذي يسورها، ويشكل معها حاضنة ينقلها الى المستقبل. واذا لم ترتكب الدكتاتورية، سوى هذا الإثم، فانه يكفي لإدانتها بجرم الخيانة الكبرى.
على مدى اكثر من ثلاثة عقود، تفرّق شمل العراقيين في سائر قارات العالم. واذا كان حظ البعض منهم الحصول على دفء اللجوء، في المنافي، فإن مئات الالاف، بل اكثر، اكتووا بمذلة التشرد، والبحث عن "الهوية" التي تمّكنهم من مجرد الاعتراف بان لهم "دولة مؤجلة". وفي حمّى الغياب والتشرد، فقدت اشياء كثيرة معانيها، وتباعد التطابق بين اشكال ومصطلحات، وصار الولاء بالنسبة للبعض، للحواضن التي تمنح الامان، ولآخرين التوسد على اي هوية تحقق له ذلك، وصارت الهويات الفرعية مصدر قوة، سرعان ما اكتسبت شرعيتها، غير المخلة، بالانحيازات السياسية التي وجدت لها أطراً ومرجعيات، تقاسمتها الدول، لتتحول الى أنوالٍ لحياكة نسيجٍ متلفعٍ بها، خارج البلاد وداخل الوطن المستباح.
(٣)
استدرج سقوط الدكتاتورية في ٩ نيسان ٢٠٠٣ العراقيين الى متاهة وطنٍ بلا دولة ولا نظام ولا هوية، سوى الهوية الفرعية التي كانت جاهزة، مطبوعة فوق الجباه، ملتمّة على نفسها، كرست حضورها بفعل فاعلٍ مخبوءٍ في السرائر، تدفعه الى انبعاثٍ منفلت، قوى المصالح الكبرى التي احاطت بهم من امتدادات الحدود المفتوحة على الموت العبثي. فأصبح للعراقي اسم مركّب الى جانب اسمه الثلاثي، الذي لم يعد يكفي للتثبت من الكينونة. كما لم يعد للوطن كُنية واحدة توحده، ليتشظى، فيصبح لكل "صوبٍ" منه كنيته، يكتسب من "سحنة" اهله وسرائرهم هويته ومكانه على الخارطة السياسية، لكن ذلك لم يعد كافياً ايضاً، لم يعد كافيا ان تكون للعراق اتجاهاته الاربع، بل تعمدت اتجاهاته بالهويات التي ظل العراقي، "يلفظها " استنكاراً، فاصبح العراق تحصيل حاصلٍ لعراقٍ مدمّى باقطاعياته الفرعية، على قدر الأديان والمذاهب والقوميات، ثم القبائل والعشائر، ليستمر التشظي، الى فروع الفروع، من المرجعيات التي قضمت وتقاسمت فصار لكل فرعٍ هوية.
وماذا بقي من الحصانة الوطنية..! ؟
(٤)
على المساحة التي تفرش فيها القوائم الانتخابية "مشدّاتها" الخادعة للعراقيين، تتضح المسافة بين الوطن المغيّب والدلالات على تفككه، واستلابه. وفي كل "نصٍ انتخابي" وشعار، تتماهى صورة المرشح مع الهوية المخبوءة وراء الحبر السري الذي يتمطى تحت حروفه  ليبدو خلافاً لحقيقته!
بين تلك المساحات، وما تحمله من لافتاتٍ وشعارات وصورٍ، يستمر الوطن "بالضمور " وتتداعى اركانه، وتتصدع صروحه، وتضيع معالمه، وتختفي ملامحه، اذا ظل الرائي اليها غافلاً عن المعاني التي تشي بها، غير ما تكشف عنها بمراءٍ ومخاتلةٍ وتابواتٍ كشفها الضيم الذي خيم على العراق، وأخذ بخناق العراقيين، منذ ان صار الدين حزباً، والمذهب لافتة، ومن يتلفع بجبتهما حاكماً، لاطاعة لقيم الدين والمذهب عليه..
والقراءة المتأنية لكل شعارٍ "متكرر"، يمنح حضوراً آخر، شديد التناقض، لمن له عينٌ في "عقله"، واستخارة في ضميره. والناخب الرائي هذه المرة يتحمل المسؤولية المضاعفة عن "تفليش" الوطن، أو الحيلولة دون اختطافه واغتصابه من اللصوص وحاملي هويات التشظي وعشيرة "ما ننطيها" التي توسعت، بانضمام "أفخاذ" إليها، من الذين انتفخت أوداجهم بالمال المستولى عليه من خزائن الدولة، وعقود الربا والرشى والعبث بالممتلكات العامة، ومن كل حدبٍ معروضٍ للمقايضة من فضلات الشركات وكبار رجال الأعمال، التي صبّت في "صندوق شراء الذمم".
موسم الانتخابات في عراقنا المبتلى، وليمة لخديعة تاريخية، الذبيحة فيها ما تبقى من آمال ومطامح مؤجلة..
وليس للعراقي الذي قيل انه "يقرأ الممحي" أن يقبل بالخديعة، وأن يجعل من مستقبله، وليمة للعشيرة التي بات فسادها مكشوفاً، تدل عليه الصور والمكرمات والشعارات المرائية، والبذخ في شراء الذمم، بلا استحياء من كشف المستور ..
(٥)
حيطان الإعلان عن النوايا، والملصقات على تنوعها وحجومها،  تكشف الادعاء، وتفضح النوايا، رغم ما استجد من ابجديات الصياغة لإضفاء مسحة إرضاءٍ لمن يبحث عن حرياته وكرامته وخبزه ومستقبل أسرته، ولمن امضّه الصبر على المكاره. لكن "زحمة التّشاد" بين المتراصين فوق مساحة الوطن، وما ادت اليه من حجب الرؤيا، اعادت خلط الاوراق بين افخاذ عشيرة "ما ننطيها" بقصد تشتيت ارادة الباحثين عن الامل المُضيّع، بين اللافتات المحشوّة بالكراهية،  والارادات الحرة، الباحثة عن التغيير والبديل الوطني المُزكّى غير الملوث بالفساد وهوس السلطة، واختطاف الدولة الفاشلة، واغتصاب الامل والمرتجى..
وليس امام الشاهد على ثماني سنواتٍ من الاستباحات، سوى التماهي مع اليقظة وصحو الوعي، واستنهاض القوى، واستدراك العزيمة، والمشاركة في التصويت بلا تردد.
(٦)
التصويت بلا لكل داعية، يرفع إصبع التباهي باغتصاب إرادتنا، ويتفاخر بانه "ما ينطيها" ..
والتصويت بنعم لاولئك الذين تشي لافتاتهم التي لا تتزاحم مع أصحاب "صندوق شراء الذمم"، بفقر الحال ونظافة اليد والضمير والسويّة.
ضع يدك على ضميرك، واغمس الأخرى بحبر سبعة آلاف سنة من سياحة العراقي في مرافئ الحضارة وصناعتها، والانفتاح على قيم ومبادئ الحرية والعدالة والقانون...
أغمسها وصوّت للذين لا عشيرة لهم غير الوطن...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. أبو سعد

    البصمه الانتخابيه لفاسد وبائع لولائه الوطني العراقي للخارج (في سوق العهر السياسي سيكون الناخب شريكا)ولا يشفع له المذهب والقوميه والعشيره. يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖإِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَٰذِ

  2. اياد عبد العزيز سعود

    السﻻم عليكم ..،سأكون ان شاء الله اول من يرشح الشخص الذي ﻻ عشيره له سوى العراق ..الوطن الغالي الاستاذفخري اتمنى ان يعلق عنوان مقالته الرائعه في واجهات وساحات بغداد ﻷنه حقيقه ابلغ شعار قرأته عن الانتخابات

  3. ابو سجاد

    نشكرك استاذ فخري على هذا الطرح الجميل والرائع كونك حللت الواقع العراقي الذي نعيشه اليوم وقدفصلته بشكل مستفيض ونرجو ان لا تحمل الناخب مسؤولية التغيير والحقيقة ان الناخب وصل الى قناعة ان الجميع من في الساحة هم فاسدين وخونةاذن الناخب في حيرة من امره والغالبي

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram