كل عام أتهيأ للكتابة بمناسبة رحيل فنان الشباب واليسار القومي الناصري والرومانسي العربي المكبوت عبد الحليم حافظ فلا ألحق وكأن عبدالحليم يموت سريعاً بشكل مفاجئ، مثل شهاب حزين، قبل أن يتيح لمحبيه أن يستذكروه أو يرثوه أو يستعيدوه.
وإذ أستمع لأغنيته (بأمر الحب)، فهي تنبش في تاريخي المراهق لحظات لم تزل مختومة على جلد قلبي، مثل وشم رمادي غامض، تعبرها بنات منهن من "بنات أفكاري" وأخريات من بنات الطرف، وأخريات من التاريخ اللاحق للمستقبل.
يسألني حليم: أيّ حب وأيّ أمر، فأجيبه: أنا (سواح) لا يهمني الحب ولا أمره، هنا والآن، إنما الأغنية، الأغنية نفسها، التي ارتبطت بغرامي الأول، غرامي الملتبس بين الوهم والحقيقة، بين ابنة الجيران وقصيدتي التي لم أكتبها بعد، فيهمس حليم في أذني: يا بني، الأغاني بنات الشعر، ولا أغنية بلا قصيدة، حتى عندما غنيت (صافيني مرة) وضربني الجمهور بالطماطم، كنت أغني شعرًا لم يعتده الجمهور.. على أن حليم غنى لصلاح عبد الصبور في شبابه نصاً ضعيفاً جداً (لقاء).
على أن (على قد الشوق اللي ف عيونك) - يضيف حليم وهو يهمس في أذني - لم تكن بمنجى عن غضب الجمهور التقليدي وإن أحبها البعض، ولا تنس قصتي مع السيدة ليلى مراد التي كانت معي في منتهى الكرم، لأنني "خطفت" منها أغنية من أجمل أغنياتي، أو أغانيها، هي أغنية(تخونوه) بعد أن سمعتها من صديق أغنيتي ورحلتي الطويلة بليغ حمدي.. قلت لبليغ: الأغنية حلوة قوي، أريدها فورا. قال بليغ: أنا أديتها للست ليلى! قلت له: يلله بينا للست ليلى يمكن تكرمنا وتسمح أغنيها.
ورحنا الست ليلى، يقول حليم، وفاجأتنا بكرمها وزهدها. قالت: ومالو؟ غنها يا حليم، إحنا أخوات وزمايل - بالمصري مو بالعراقي- يمكن تطلع منك أحلى.
وغنيت الأغنية اللي كانت في فيلم (الوسادة الخالية).
على أن عبد الحليم رغم نجاحه الكبير فناناً للغناء العربي الرومانسي كان ضحية البروبوغاندا الناصرية، ليتوجه، بعد هزيمة حزيران ،1967 إلى الغناء الرومانسي الصرف، فهو الفنان الذكي الذي أدرك أكذوبة القومية الناصرية، بالغريزة، أو على الأقل ، يئس من وعود القومية العربية التي انتظرها، ثم بدت فاضحة، لاحقاً، في إعلام أحمد سعيد الكاذب الأكبر، لكن المهم أن صاحب (حاول تفتكرني) و (أي دمعة حزن) والمئات غيرها، بقي خالداً يغفر له فنه وإن خدعته السياسة.
حليم يشبه الكثيرين منا، نحن الذين نراهن على أحلام ثورية رومانسية ستنهار لاحقاً، ويمكن أن نضع حليم في خانة "مثقف" سلطة شمولية، وهذا صحيح، لكن الخطأ هو خطأ السلطة وخطأ الفنان معاً.. السلطة في خطئها الشمولي والفنان في انجرافه ليرتبط بها بعد أن صدق وعودها في الاشتراكية والسد العالي وهزيمة العدو الصهيوني، على أن الغريب، وليس بالمستغرب أن حليم سرعان ما غنّى للسادات، إثر حرب العبور التشريني عام 1973 أغنيته (صدق اللي قال) وهي أغنية جميلة ، لكن لا يعني أن الأعمال "الجميلة" على حق دائماً.
إنها "انقلابات" المثقف/ الفنان التي لا تختلف عن انقلابات السياسي وهذا يحدث كثيرا في عالمنا العربي، ومثله، ولكن أقل، في عالم الغربيين (جون شتاينبك) مثلاً!
ما زلت ألجأ لحليم مطرباً كبيراً لأن فنه أكبر من تقلباته التي أجبرته عليها السياسة ،لأنه صديق شخصي لجمال عبد الناصر ومغنيه.. لكني لا أسامحه، كصديق، على هذا، لأن الفن موقف!.
حليم يا صديق رومانسيتي القصيرة، مثل عمرك، أحبك وأغفر لك، وكلنا ضحايا السياسة، وسأبقى (بحلم بيك)!
لأني أحبك لا يمكن لي أن أكون موضوعياً معك.
حليم في ذكراه
[post-views]
نشر في: 31 مارس, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 3
زياد
رائع حليم وكل ما يكتب عن حليم
سالم فيصل
رحم الله امواتك استاذ عواد لتذكرك هذا العملاق عبد الحليم حافظ الذى لن انساه الا بموتى ,,,رغم ماتأخذ عليه له مكانةخاصة فى ذكرياتنا بحلوها ومرها ,,تغمده الله برحمته الواسعة,,,حين اسمعه اقول ياريت الزمان يعود ,,,تمنى لااكثر لنعيدحساباتنا فى كل شئ
رمزي الحيدر
كلمات جميلة تتناسب مع جيل الخمسينيات .!.