كان عليّ أن اخترق أول التابوهات مطوّقة بخوفي وحده، فكيف لمخترق المحظور أن يكفّ عن الخوف وهو أمام كشف مدهش ؟؟ شهوة مواجهة المجهول هي ما يجعل الخوف وليس الإقدام دافعا لاختراق المحرّمات، الحواسّ البكر تنقذف في التجربة وتجعل
كان عليّ أن اخترق أول التابوهات مطوّقة بخوفي وحده، فكيف لمخترق المحظور أن يكفّ عن الخوف وهو أمام كشف مدهش ؟؟ شهوة مواجهة المجهول هي ما يجعل الخوف وليس الإقدام دافعا لاختراق المحرّمات،
الحواسّ البكر تنقذف في التجربة وتجعلنا نبصر ونشمّ ونسمع ونتذوق ونلمس وفي الغالب نشم أكثر في الصمت، الخوف من الانفضاح هو ذاته سرّ لذتنا في الاكتشاف، الانفضاح وحده لا يكفي.
مع أوّل كتاب لمسته يداي- غير كتب المدرسة – فغمت أنفي رائحة التبغ الخام، ممتزجة برائحة الكتب الصفر - الورق الهشّ والطباعة الحجرية، مزيج من روائح كانت تفور من نبع سرّيّ في حجرة معتمة تسلّلت إليها ذات ظهيرة صيف أنا الصبية الصغيرة التي تتصبّب عرقا وترتعش وهي تعبر الغرفة إلى كشوفها الأولى لتمزق أوّل الحجب ..
الخوف من انكشاف تسلّلي إلى حجرة المحرّمات يرعش يديّ النحيلتين وهما تقلبان الكتب الشهيّة في بصيص نور يتسلل من كوة وسط السقف يدعونها (السماية) - والكلمة تصغير عامّي لصفة منسوبة للسماء..
كانت السماء سندي في الانغماس بالخطيئة الأجمل : استراق قراءة الممنوع والمحظور.
مفارقة جعلتني وأنا صبية أتمزق بين أشواق أرضية ونزوع سماوي، فدخلت ظلال الكلمات وأطياف المعاني وترحلّت في خفاء الحلم دون أن أفقد ظلي ..
أبي كان ماركسيا حالما باليوتوبيا والعدالة موهوما - شأنه شأن الكثيرين- بالنظرية التي سحرتهم وعودها الفردوسية .
هو وصحبه كانوا يتداولون كتبا ومجلات وصحفا تعذر عليّ- وأنا ابنة التاسعة- أن أعي مضامينها، وكانوا يتعمدون إغوائي بقراءتها، وما كنت أحفل بها آنئذ، أقلبها بعجالة وأهجرها إلى أحلامي وقصصي الطفولية التي كنت اكتبها وأرسم أحداثها في الصفحة المقابلة وأتمتع بخلق شخصيات لا وجود لها في عالم الكبار المقنن، حتى ملأت دفاتري المدرسية كلها بالحكايات والرسوم ونلت عقابا من معلماتي وزجرا من الوالدين ..
مقابل ضلال أبي الماركسي -كما كان يقال – كان زوج خالتي تاجر التبغ المتدّين يحظى باحترام العامة ونفور المتعلمين والمثقفين، ومقابل كتب أبي التي تتخطّى فضاء المقدس إلى مدى حرية الفكر وتفنيد ما هو مستقرّ وثابت من الأحكام – كان زوج خالتي يقيم أذكارا دينية كل ليلة جمعة في داره أو في خان البلدة القديم، ويؤمّ الذكر دراويش ومشرّدون ومتصوّفة ومشايخ وجياع ولصوص يتقمصون توبة لليلة واحدة -وكان يرقي المرضى والمصروعين ويعوّذ الأطفال بالأحجبة ويقوم هو وجمع من المريدين وعوائلهم بزيارات لمراقد الأولياء لتقديم الولاء والصدقات وفك أسر المأخوذين واستنزال الخصب لأرحام النساء العواقر..
وأنا الصبية مهدورة الروح بين الإلحاد الذي وصم به الأب المارق في أوساط المتدينين وبين ليالي الذكر والمدائح النبوية وتمجيد الرسل وصيحات الوجد : حي ..حي، كنت أتبدد ما بين الرفض والقبول لكلا الأمرين وابحث عن منجى في الركون لملاذ أجهل بلوغه.. لكني كنت أتوق إلى حضور ليالي الذكر وسماع النقر على الدفوف ومشاهدة انخطاف المتصوفة في حالات الوجد والتوحد بخالقهم، كان الأمر مثيرا لخبرات طفولتي، وكنت أرافق أمي في أماسي الذكر ونجلس مع النساء على سطح البيت لدى السياج الحديديّ المطلّ على الفناء ونتفرج على مجريات الليلة من أول طقوسها حتى اكتمالها ..
في الوقت ذاته كان إحساسي بالانفصال عن العالم الواقعي يدفعني إلى تصور نفسي طفلة ضالة أتت من عالم آخر لا تعرفه هي نفسها، كنت أحّسنيّ بلا أب ولا أم ولا أهل وأعدو في النهارات إلى البساتين وضفاف الأنهار بعد الدروس، وفي الليل أرقب نجوما بعيدة وأحاور أصدقائي من الشجر والطير والزهور والقطط..
ذات ظهيرة والكل نيام في قيلولة الصيف سقط عصفور صغير من عشّه في نخلة تتوسط فناء بيت الخالة، ودخل نافذة إحدى الحجرات المحيطة بالفناء. تسللت وراءه من باب الحجرة التي كانوا يحرمون علينا دخولها نحن البنات الصغيرات - وهي مخزن لغلة التبغ التي يأتون بها من بلدة راوندوز في جبال الشمال من بلاد الأكراد - فرأيت حزما كبيرة من أوراق التبغ المجفّفة بعروقها الخشنة معلقة على الجدران، التبغ الناعم كان معبأ في أكياس الجوت الكبيرة، سلال أخرى كانت ترصّ فيها كميات من التبغ الخشن وعلى الجدار المقابل للباب كانت عشرات الدفوف التي تستخدم في الطقوس الدينية معلقة هناك. قفز العصفور ما بين تلال التبغ وجدار الدفوف ولاحقته وهو يقف على إطار دف عملاق. مددت يدي، فارتطمت ذراعي بالدف وسقط على الأرض محدثا ضجة مجلجلة حسب ما أوهمني خوفي، وطار العصفور من النافذة. ولبثت هناك سجينة مغامرتي وفضولي، رأيت قبالتي خزانة كتب، كان هناك سرّ الأسرار ومجمع الغوايات كلها، ولهذا حظر على البنات دخولها، مددت يدي إلى أكبر الكتب حجما، كان كتابا أصفر الغلاف وقد تبقع بضوء الكوة السماوية: ألف ليلة وليلة، قرأت الاسم وأنا في رعبي أتخيل حشدا من الليالي السود تحيط بي وتضغط على قلبي الراعش، فيسقط في الظلمات. ألف ليلة من الليل الذي كان يرعبني بأشباحه وغيلانه المنبثقة من كهوف المخيلة.. كيف تكون هذه الآلاف من الليالي؟ تساءلت ابنة السنوات التسع وشرعت تبحث عن إجابة ..
تصفحت الكتاب السميك الذي تمزقت حافات أوراقه الهشة، وتظافرت رائحة التبغ ورائحة الورق العتيق وعبق الظلمة ورائحة الجلد الرقيق المشدود على أطر الدفوف في صنع جوّ من الغرابة للصبية الخائفة، ولكي أتجاوز خوفي المركب من دخول الغرفة واكتشاف الكنز المحرّم خطفت ورقة تبغ ومضغتها فلذعني مذاقها المرّ الحارق والتهبت شفتاي ..
في هذه البرهة الخارجة من سياق زمن الطفولة، كنت أتعرّف إلى لذّة المحرّم المجهول وأنا أقلب صفحات سفر الحكايات وألج باب الخيال والرؤى في مطاردتي لطائر صغير وأنغمر في لجج من روائح متنافرة : عبق التبغ المرّ وخفة شذى ماء الورد ورائحة الجلد والخشب وأوراق الكتب العتيقة وغبارها الشهيّ ورائحة البسط الصوفية المنقوشة بموتيفات سومرية وبدوية ..
وبدأت أقرأ وتسمرت أمام أحداث الحكاية –الإطار لألف ليلة ودفعني فضولي لمواصلة القراءة وملاحقة مصير الفتاة التي اختارت المجازفة بحياتها لتكشف سر الملك الفاتك قاتل النساء وترجئ موتها وموت البنات المضحى بهن على مذبح شهوات ملك عاجز ..
أصابني الدوار وأنا أتوغل في النص ورائحة التبغ تفغم حواسي ..
كنت قد شهدت ليلة الأذكار الصوفية بالأمس وأرهفت السمع للأناشيد الدينية ينشدها مغنّ ضرير مع بطانته من المنشدين على إيقاع نقر الدفوف، كان الدراويش ينودون برؤوسهم ويتحركون على الإيقاع المتواتر المتسارع ويهمهمون بكلمات مبهمة، حتى إذا تعالى صوت المنشد بالمدائح النبوية وهاجت مشاعر المنصتين وقفت مجموعة منهم وتحركت الأجساد النحيلة حركات مترنحة وتمايلت على وقع النقر في سماع روحاني، بغتة رأيت أحد الدراويش مأخوذا بحالة الوجد-يسقط وسط حلقة الرجال الذاهلين في الغياب، حملت خالتي مرشاشا من الفضة ونثرت ماء الورد على وجهه الشمعي وانحنى عليه أحد الدراويش وصاح : حيّ .. حيّ .. أفاق المأخوذ من غيابه وتعالت ضربات الدفوف فنهض الرجل بعينين ذابلتين وفم راعش وهو يحدق في العدم بنظرات مما وراء الوجود.
من تلك اللحظة أدركت ماهية السماع وقوة الموسيقى التي ارتبطت لاحقا مع النص الغرائبي لألف ليلة، وكان مصير الكاتبة اللاحق قد بدأ يشكل بذرته الأولى على نواة صغيرة.