لن تكون الأيام القليلة المتبقية من حياتنا مؤاتية لحفظ ما يندرس سريعاً من أسماء وطرقات وجسور وأنهار، فقد توقف سائق التاكسي التي أقلتني إلى حفل مدارس أبي الخصيب الأهلية، توقف ملياً لكي يتذكر، ومن ثم ليقول لي غير متأكد مما إذا كان الجسر الذي اجتزناه هو على نهر باب ميدان أم على نهر البريم أم نهر جلاّب، وحين حكَّ رأسه مستحضراً الأنهار والجداول الأخرى المتفرعة من نهر باب سليمان ذكر جسر باب رمانه وآل إبراهيم والرهوالي التي تقابل قرية باب طويل. وحين وقف المعلم قبل ثلاثين عاماً والدكتور الآن حسين فالح نجم شاعراً، خطيباً ترحم على روح من تذكر جيلا من المعلمين والمربين الأوائل، لكنه توقف طويلا عند أستاذه ومعلمه الأول فؤاد القبّان. لكني ومن بين حشد معلمي أبي الخصيب الذين كرموا اليوم تذكرت أنَّ المعلم، الشاعر والمؤرخ الكاتب وأستاذ الرسم والموسيقى والمسرح ياسين صالح العبود لم يكن حاضراً. كانت القاعة العام الماضي مزدانة به، هو مريض اليوم، لا تعينه قدماه على الوصول إلى القاعة، المربّي والمشّاءُ طويل الوقوف على المسرح وعزف العود لم يأت.
في أبي الخصيب لا يجزم الكاتبون على أولية النهر وثانوية الجسر والقرية فهم يتوقفون طويلاً قرب الأنهار، على الجسور، في القرى لكنهم يظلون واجمين، حيارى في الذي ابتدأ المسمى به، هل سبق النهر الجسر أو سبقت القرية الاثنين لذا فهم حين يقولون السراجي إنما يقصدون الثلاثة معا(النهر والجسر والقرية) كذلك مع مهيجران وحمدان ونهر خوز وأبو مغيرة حتى تصل إلى باب سليمان الذي ينزع من مبتدئه نهر بويب، نهر الشاعر بدر، الذي يأخذ حصته من جيكور(النهر) – نحن لا نبعد عنه كثيرا- فجيكور قرية ونهر وجسر أيضاً. نحن نكتبُ هذا ونشير ونتعمد التذكر ونقفل عائدين إلى مكاتبنا ذلك لأن النسيان لابدَّ قادم، زاحف على الأمكنة والأسماء ليجعل منها أكشاكا كالتي لوقوف باصات نقل الركاب التي سرعان ما تزيحها إدارة البلديات لتقيم في أمكنتها المباني الجديدة أو لتصبح جزءاً من إسفلت الشارع الرئيس. مثل قبر أبي الذي إزاحته الجرّافة لتوسع من مقدرتها في ضبط الأمن.
يقول السائق بان مكان الحفل سيكون في متنزه الساحل، وإن الطريق التي نسلكها إليه كما تراها موشومة بحفر قذائف الحرب مع إيران، لم يصلحها أحد. قلت لعله أدرك مبتغاي في التذكر والنسيان، هل نسيتُ الحرب، وصوت القذائف وكيف تفرق أهل أبي الخصيب في الأديرة والقصبات. أتذكر اللحظة ما حدثني به صديقي، قاسم عن شقيقه الدكتور سهيل ابن المربّي الأول، صديق بدر شاكر السيّاب، محمد علي اسماعيل الذي فرَّ وأقام في الرمادي بعد أن طالت قذائف الحرب مع إيران في الثمانينات دارهم في ابي الخصيب، وحتى وقت قريب ظل أستاذاً وعالماً هندسياً مقبولا في الجامعة هناك، لكنَّ حياته لم تستقم بينهم فهو(شروكي) من وجهة نظر المتشددين منهم، وهو سنيٌّ قادم من الرمادي عند البصريين المتشددين أيضاً، لذا شد رحاله إلى الخارج، بانتظار الاعتراف بخصيبيته وبصريته وتميمية قبيلته التي انكرها عليه الكثيرون.ينفث سائق التاكسي حسرةً كبيرة لأن البلدية لم تزرع شجرة واحدة على طول الطريق الممتدة مع نهر باب سليمان حتى الشط، شط العرب يقصد، إلى حيث متنزه الساحل، الذي نقصده، حيث غرق طلاب السفرة المدرسية ومات منهم اكثر من خمسة في الواقعة المعروفة بغرقى الساحل. يقول صديقي الشاعر طالب عباس هاشم مؤبناً أحدهم : كانت جثتك صغيرة / لذا ملأنا الفراغات في تابوتك بكتبك وأقلامك ولعبك الصغيرة.
كان التاريخ العربي، الإسلامي بطائفتيه يمرُّ آمناً، وبلا تصدعات من خلال أسماء المعلمين والطلاب المُكرمين من إدارة مدارس أبي الخصيب الأهلية في قاعة متنزه الساحل فتسمع عريف الحفل ينادي: مثنى وحارث وقصي وعبد الرحمن وعمر وآمنة وعائشة والخنساء مثلما تسمعه وهو ينادي ايضاً: علي وعبد الرضا وقاسم وعباس وزينب وفاطمة وسجاد في كرنفال خصيبي خالص للعلم والتربية والحب والطمأنينة. بل أن اللبيب والفطن والمتتبع لن يتمكن من معرفة ما إذا كان الطالب الذي قرأ القرآن سُنيا ام شيعياً، كذلك كان الحال مع من سكن القاعة خطيباً، شاعراً أو مستمعاً حيث ظلت بغية العلم ومساعي الطموح في التفوق اكبر من كل بغية تسخر من حشد اليافطات، خارج القاعة. لا أحد في أبي الخصيب يستطيع معرفة من سبق، ومن كان الأول في متوالية القرية والنهر والجسر، لكنهم يعرفون أن الذين تم تكريمهم اليوم كانوا خصيبيين حسب.
حيثُ يكُرَّم الخَصيبيُّ المعلّمُ
[post-views]
نشر في: 5 إبريل, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...