أربيل/ عمر محمود عبد الله عدسة/ محمود رؤوف "إنّه ثرثار كبير" يقول جان جينيه في معرض إجابته عن رأيه في هنري ميللر (1891 ـــــ 1980). ثرثار بما يدفعنا إلى ملاحقته على مدى 1600 صفحة في ثلاثيته «الصلب الوردي» («سكسوس»، &la
أربيل/ عمر محمود عبد الله
عدسة/ محمود رؤوف
"إنّه ثرثار كبير" يقول جان جينيه في معرض إجابته عن رأيه في هنري ميللر (1891 ـــــ 1980). ثرثار بما يدفعنا إلى ملاحقته على مدى 1600 صفحة في ثلاثيته «الصلب الوردي» («سكسوس»، «بليكسوس»، «نكسوس»)... ثرثار بما يقوده إلى الحديث عن «مونا» إلى ما لا نهاية، في بحثه المضني عن أسباب التصاقه بها لسنوات. إنها «المرأة»، أي كل النساء، وكم من النساء في حياة هذا الصعلوك النيويوركي، ثم الباريسي، من دون أن يغيب عنه تساؤل دائم «ماذا تريد المرأة؟»، فيجيب «في النساء سمة منحرفة... كلهن مازوشيات!». هذا يرد في «مدار السرطان» (1934) التي صدرت في باريس ومُنعت في الولايات المتحدة. هي وما تلاها من روايات «ربيع أسود» (1936) و«مدار الجدي» (1939) صدرت عن «دار المدى» بترجمة أسامة منزلجي الذي اقترن اسمه بترجمة ميللر منذ الثمانينات.
كان على ميللر أن ينتظر أكثر من 20 سنة بعد عودته إلى أميركا عام 1940، لينجح المحامي الشهير ألمر غيرتز في الحصول على قرار قضائي يسمح بتداول رواياته وطبعها بوصفها أعمالاً إبداعية. حينها، كان الكتّاب العظام يتحدثون عن «مدار السرطان» همساً. عزرا باوند قال عنها «كم كتاب قذر يستحق القراءة»، بينما ذهب جورج أورويل في مقال «في جوف حوت» إلى اعتبار ميللر كاتباً غير عادي ووصف «مداره» بـ«إنه كتاب رجل سعيد». عبارة تختزل ملمحاً من أدب ميللر أو كما يقول ميللر نفسه «لا أملك أي نقود، لا موارد، لا آمال، أنا أسعد إنسان على قيد الحياة. قبل عام، قبل ستة أشهر، كنت أظن أني فنان. لم أعد أفكر في هذا، فأنا فنان فعلاً. كل ما كان أدباً سقط منّي، ولا مزيد لكتب تكتب، فشكراً لله». هكذا يخبرنا في أول صفحة من «مدار السرطان» ويتساءل: «فما هذا إذاً؟ هذا ليس كتاباً، هو تشهير، افتراء، تشويه سمعة، هذا ليس كتاباً، ليس بالمعنى العادي للكلمة. لا، هو إهانة طويلة، بصقة على وجه الفن، رفسة على قفا الله، والإنسان، والقدر، والزمن، والحب، والجمال....».
الإنسان السعيد سيواصل تلك السعادة في «ربيع أسود»، كما لو أنّ الفرح لديه باريسي بامتياز، تدخله سوداوية نيويوركية متى استعاد حياته في الحيّ الرابع عشر، حيث رأى «شمس السفلس العظيمة تغرب»، واجداً فيها مستقبل حي البرونكس والعالم الحديث، ومؤكداً أن لا نجوم جديدة في الأفق، بل كوارث. هو الذي كان لا يكتب أدباً، وإيمانه الراسخ يتمثل في: «إن الذي لا يحدث في عراء الشارع المفتوح مصدره زائف، أي إنه أدب».
الربيع الذي يريده ميللر أسود مسكوناً بتشرده ونومه في المراحيض، سيقوده إلى إنهاء تلك الرواية بفصل عظيم عنوانه «مهووس المدينة العظمى»، ومَن ينسى بدايته: «تكون المدينة في أوج جمالها حين تبدأ جلبة الموت العذب...»، وحديثه عن القطيع الهائل تقوده الوحشة وبحثه عن الله والمفرقعات النارية تفرقع في ثقب مؤخرته.
من هذا المهووس سيقفز إلى «مدار الجدي». مع هذه الرواية سنتعرّف إلى أميركا ميللر، سيفتح بركلة قدم ومعه جوقة من سعاة البريد أبواب الجحيم. وكعادة ميللر ـــــ أبو أدب السيرة الذاتية ـــــ ستتدافع العبارات وتتلاطم وتتدفق جارفة معها مصائر أشخاص عرفهم في مؤسسة البريد وهذياناتهم ومصائرهم الإجرامية. في «مدار الجدي»، يستوقفك مقطع مدهش «حين أفكر في بعض الفارسيين والعرب الذين عرفتهم، حين أفكر في الشخصية الراقية التي كشفوا عنها، بكياستهم، برقتهم، بذكائهم، بقدسيتهم، أبصقُ على فاتحي العالم البيض، على البريطانيين المنحطين، والألمان برؤوسهم الخنزيرية، والفرنسيين الواثقين من أنفسهم حتى الغرور، الأرض هي وجود واحد حساس وعظيم، وكوكب مشبع قلباً وقالباً بالإنسان....».
«كم كتاب قذر يستحقّ القراءة» (عزرا باوند عن «مدار السرطان») ميللر، ودائماً هو منحاز إلى البدائية، إلى صرخات خارجة من اللحم، يرى الحضارة انهياراً متواصلاً، وبما يتخطى أوزوالد سبنغلر الذي انهوس ميللر بكتابه «سقوط الغرب»، بينما يردد وهو يجوب شوارع أميركا «لقد جبت شوارع الكثير من بلدان العالم، لكنني لم أشعر في أيّ منها بأني منحطّ ومذلّ كما أشعر وأنا في أميركا.».
في «مدار الجدي»، ليس ميللر ذلك الإنسان السعيد في «مدار السرطان». هنا تجري أحداث الكتاب كاملةً في أميركا التي يخاطبها بـ«الخراء البرقي الكوني». وهنا لا يقتلنا من الضحك حين يتحدث عن لحية بوريس الذي ينتف شعيرات منها ويلصقها على عضو تانيا الدافئ، بينما يسترسل في الحديث عن مقابض الأبواب والشموع الرومانية التي تستخدمها في إخماد شهواتها المتفجرة. هنا، عينه لا تفارق أميركا وما تمثّله بالنسبة إليه، وهو يستشرف المستقبل ويشرّح الحاضر. الأمر الذي لم يغفر له أميركياً، رغم أنّ ميللر لم ولن يكون من كتّاب أميركا الرسميّين، وإن كان «جيل البيتنيك» وكتّابه مدينين له بالكثير.