ولد ألكساندر إيفانوفيتش غيرتسن في موسكو عام 1812 من أب روسي وأم ألمانية , لم يتمكنا من تسجيل زواجهما آنذاك , ولم يستطع والده ان يمنحه لقبه بسبب ذلك , فأطلق عليه لقب غيرتسن , والذي صاغه من الكلمة الألمانية ( هيرز/ هيرس ) التي تعني القلب &n
ولد ألكساندر إيفانوفيتش غيرتسن في موسكو عام 1812 من أب روسي وأم ألمانية , لم يتمكنا من تسجيل زواجهما آنذاك , ولم يستطع والده ان يمنحه لقبه بسبب ذلك , فأطلق عليه لقب غيرتسن , والذي صاغه من الكلمة الألمانية ( هيرز/ هيرس ) التي تعني القلب , وبما انه لا يوجد حرف الـ ( الهاء – ه ) باللغة الروسية , أصبح اسمه – ( غيرتسن أو جيرتسن حسب لفظ إخواننا المصريين لحرف الجيم ) , لهذا نجد ان معظم المصادر غير الروسية ( بما فيها العربية ) تسميه هكذا – ( هيرزن ) أو ( هيرتسن ) , ويظن البعض ان ذلك ربما ( وأؤكد على كلمة ربما لأني لست متأكدا من ذلك ) يعني محاولة من هؤلاء لإضفاء السمة والروحية الألمانية عليه ضد السمة والروحية الروسية لديه , وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا شيء غير دقيق , إذ أن ألكساندر إيفانوفيتش غيرتسن ( 1812 – 1870 ) جزء لا يتجزأ من تاريخ الفكر والأدب الروسي في القرن التاسع عشر رغم كل مساهماته ومشاركاته ونشاطاته المتميزة في الحركات الفكرية والسياسية الأوروبية بعد هجرته إلى أوروبا واستقراره فيها ووفاته هناك . ان أي محاولة لإضفاء صفة أخرى عليه تبعده أو تعزله عن روحية روسيته وارتباطه العضوي والجذري بتلك الروحية أو تقلل منها - هي مسألة غير صحيحة بتاتا وطرح غير موضوعي لمكانته وأهميته في تاريخ الفكر الروسي .
معظم المصادر العربية حول غيرتسن تتناول الجانب الفلسفي والثوري في نشاطه وتتحدث عن دوره و مساهماته في تهيئة عملية تحرير الفلاحين الأقنان و في صياغة النظرية الثورية و وضع أسس حركة الـ ( نارودنيتشستفو ) التي ترتبط بكلمة ( نارود ) الروسية ومعناها – الشعب , ومن هنا يترجمها البعض بـ ( الحركة الشعبية ) , بل ان البعض يتكلم حتى عن صياغة غيرتسن لـ ( عقيدة الاشتراكية الروسية ), وكل هذه الآراء والأفكار والنشاطات واردة فعلا ويمكن إيجاد انعكاسات لها هنا وهناك في مسيرته و صحيحة بشكل أو بآخر و لكنها بحاجة ماسة جدا جدا للنظرة العلمية المعمقة و التحليلية والشاملة وليست للنظرة الأحادية فقط كما نرى في الكثير من تلك الدراسات والمقالات , ولا مجال للتوقف هنا عند هذه النقطة والتوسع بشأنها في إطار هذه المقالة , بل يقتضي ذلك كتابة مقالة خاصة ومستقلة بلا شك , ولكننا نود هنا ان نشير إلى مسألة مهمة من وجهة نظرنا وهي , ان النشاطات الفلسفية والثورية طغت كثيرا ( في تلك الدراسات والمقالات ) على جوانب أخرى في نشاط غيرتسن الفكري لدرجة أنها حجبت تقريبا إبداعه في مجال الأدب ومساهماته المتميزة والأصيلة والرائدة في مجال الصحافة وجعلتها غير مرئية تقريبا , و لهذا نريد ان نتناول في مقالتنا الجانبين الأدبي والصحفي لديه فقط , وعلى هذا الأساس تمت صياغة عنوان مقالتنا بهذا الشكل , أي – الأديب والصحفي غيرتسن ليس إلا .
غيرتسن الأديب يرتبط قبل كل شيء برواية معروفة في تاريخ الأدب الروسي بعنوان - ( من المذنب ) , وبكتاب رائع ومتميز ومهم وفريد في مسيرة الأدب الروسي بعنوان – ( الماضي والأفكار )( يترجم عنوان هذا الكتاب بأشكال مختلفة بالعربية منها – ذكريات الماضي والأفكار // ماض وأفكار // ماض وتأملات فكرية ...) , أما غيرتسن الصحفي فيرتبط بإصدارين شهيرين في تاريخ الصحافة الروسية المعارضة في الخارج وهما – ( نجم القطب الشمالي ) و ( الناقوس ) , وسنحاول ان نعرض كل ذلك بإيجاز في ما يأتي :
صدرت رواية ( من المذنب ) عام 1846 وبجزئين , وقد بدأ غيرتسن بكتابتها عام 1841 عندما كان مبعدا عن موسكو ,وتشير بعض المصادر إلى ان الناقد الأدبي الكبير بيلينسكي ( 1811 – 1848 ) قد اطلع على مخطوطتها وأشاد بها . لم يكن هناك في تلك الفترة من تاريخ الأدب الروسي أي اسم من أسماء الروائيين الكبار، مثل تورغينيف ودستويفسكي وتولستوي, وفجأة تظهر رواية ناضجة و ذات نكهة وسمات اجتماعية وسيكولوجية تصور الواقع الروسي الكئيب في المدن البعيدة عن المركز وطريقة الحياة الباهتة فيها والتي تذكر بأجواء غوغول, وأما مؤلف الرواية , فهو نبيل روسي خريج جامعة موسكو و مبعد عن العاصمة لنشاطه الفكري المعارض للسلطة القيصرية – كل تلك الوقائع التي أحاطت رواية غيرتسن لفتت الأنظار إليه وجعلته يشغل مكانه الخاص به ضمن أدباء روسيا الكبار وضمن تاريخ أدبها .
يعد عام 1846 تاريخا حاسما في حياة غيرتسن , إذ ظهرت فيه روايته ( من المذنب ) التي تحول عنوانها بحد ذاته إلى سؤال سياسي واجتماعي كبير في روسيا يبحث عن جواب, وفي هذا العام أيضا توفي والده الغني جدا وأبقى له ثروة هائلة , وهذا ما سمح له بالسفر إلى أوروبا والتعايش والاختلاط مع شعوبها ومشاهدة أحداثها الثورية بل وحتى المساهمة الفعالة في تلك الأحداث, وبعد رحلات عديدة قرر ان يستقر في لندن عام 1852 ويكرّس حياته للعمل الفكري والثوري هناك من اجل تحقيق أهدافه بعيدا عن السلطة القيصرية ورقابتها الصارمة وعقليتها , وهكذا اقتنى مطبعة روسية في لندن واطلق عليها تسمية – ( المطبعة الروسية الحرٌة ) وهو عمل رائد وخطوة شجاعة لم تكن لها سابقة في تاريخ روسيا , بالتعاون وبمساعدة صديق عمره منذ أيام الدراسة في جامعة موسكو أغاريوف بدأ بإصدار مجلة ( نجم القطب الشمالي ) ( 1857- 1868 ) وجريدة ( الناقوس )( 1857- 1867 ) وأصبح واحدا من أشهر الشخصيات الروسية داخل روسيا وأكبر شخصية خارجها أيضا.
نجم القطب الشمالي –تسمية مجلة الديسمبريين في روسيا , وهي حركة مشهورة حدثت في شهر ديسمبر / كانون الأول عام 1825 ضد القيصر قام بها مجموعة من الضباط والمثقفين الشباب , وانتهت بإعدام خمسة منهم ونفي الباقون, وقد أخذ غيرتسن تسمية مجلتهم متقصدا كي يقول انه يريد ان يستمر بعملهم ويعلن تأييده لأفكارهم , بل انه وضع صور الخمسة الذين أعدمهم القيصر على غلاف تلك المجلة وتحت اسم المجلة . صدرعن المجلة هذه سبعة أعداد فقط طوال فترة وجودها , وقد نشرت كل النتاجات الأدبية التي كانت ممنوعة بأوامر الرقابة في روسيا , بما فيها بعض قصائد بوشكين ورسالة بيلينسكي الشهيرة إلى غوغول ورحلة من بطرسبورغ إلى موسكو لراديشيف ( انظر مقالتنا بعنوان راديشيف وكتابه رحلة من بطرسبورغ إلى موسكو ) وغيرها , أما جريدة ( الناقوس ) ( يترجمها البعض الجرس وهي ترجمة غير دقيقة ) فقد كانت تصدر مرة أو مرتين في الشهر وكان شعارها – تحرير الكلمة من الرقابة وتحرير الفلاحين من الإقطاع , وكانت بحق صوت أحرار روسيا آنذاك , وقد حاول غيرتسن جذب الأسماء الكبيرة للكتابة فيها ونجح فعلا بذلك , إذ ساهمت بالكتابة فيها أسماء لامعة، مثل الكاتب الفرنسي الكبير فيكتور هيغو والبطل الأسطوري الإيطالي غاريبالدي، ومن الأدباء الروس تورغينيف ودبرالوبوف , إضافة إلى ما نشره غيرتسن نفسه وزميله أغاريوف من مقالات ومتابعات دقيقة للحياة السياسية والفكرية والثقافية في روسيا وأوروبا .
غادر غيرتسن لندن في نهاية الستينات وقام برحلات عديدة في أوروبا واستقر عام 1869 في باريس وتوفي فيها عام 1870, وقد انجز خلال تلك السنوات آخر كتاب له بعنوان – ( الماضي والأفكار ) , وهو كتاب فريد من نوعه في المكتبة الروسية , يضم المذكرات الشخصية والذكريات والوقائع و صورا قلمية متنوعة , وفيه تسعة فصول و كالآتي – الطفولة والجامعة // السجن والمنفى // مدينة فلاديمر وقصة الحب مع ناتاليا زاخارينا // موسكو بطرسبورغ نوفغورود والنزعة الغربية والسلافية // باريس إيطاليا باريس – مرحلة الثورات وما بعدها // إنكلترا . الحياة في لندن بعد وفاة الزوجة // اللاجئون الروس . صور قلمية عن باكونين وبيجيرين // انطباعات عن السفر عبر أوروبا //رسائل قديمة من بيلينسكي وتشآداييف وآخرين .
اهتمت الأوساط الفكرية في الاتحاد السوفيتي بتراث غيرتسن باعتباره ثوريا ومناضلا ضد السلطة القيصرية , وأعادت طبع مؤلفاته بأعداد هائلة , وتمت إعادة إصدار كل أعداد مجلته وجريدته التي صدرت في لندن في مجلدات خاصة , وصدرت دراسات عديدة لأفكاره ومكانته في تاريخ الفكر والأدب الروسي , إضافة إلى تسمية شوارع ومؤسسات مختلفة من معاهد ومكتبات باسمه في الكثير من المدن الروسية وتنظيم متاحف خاصة به وهناك العديد من التماثيل له , وأهمها تمثال بالحجم الكامل يقف أمام البناية القديمة لجامعة موسكو في مركز المدينة له ولرفيق دربه أغاريوف , أي أنهما ما زالا – كما كانا في حياتهما – يقفان معاً .
جميع التعليقات 3
عواد ناصر
مقال رائع، كالعادة، للأستاذ ضياء.. شخصياً أضاف لي هذا المقال الكثير... احترامي وإعجابي بالكاتب.
ايات يوسف صالح
مساء الخير .. نحن في العراق لم نتعرف على الادباء الروس فقط تعرفنا على الكلاسيكين وهذه اول مرة اسمع بهذا الكاتب .. شكرا دكتور ضياء على كتابتك لهذه المقالة.
د. عادل الجبوري
في عام 1961 وأثناء دراستنا في كلية ألآداب التابعة لجامعة موسكو , كنا والدكتور ضياء نافع وبعض ألأخوة من العراقيين المتخصصين بالأدب الروسي نحصل على دروس اضافية باللغة الروسية في الطابق الرابع لبناية تقع في شارع اسمه شارع غيرتسين تكريما لهذا الأديب الروسي ال