3-3
الوحيدان اللذان اعترضا على موسيليني، هو القائد الفاشي إيتالو بالبو وزميله دي بونو، الذي خاطب الودتشه قائلاً "لكن ماذا فعل اليهود لكم؟ في إيطاليا هم أكثر فاشية من جميعنا نحن" (ص323)، وهو لم ينطق بجملته تلك من العدم، فبصفته منظّراً للحزب الفاشي ورقم 3 كان يعرف لما يقول . . أمثلة عديدة في ذهنه، من أين يبدأ: كاميلو براني الهنغاري الأصل لكن المولود في ميلانو، مهندس زراعي ممتاز، وعسكري، شارك في كل حروب إيطاليا الاستعمارية، بصفته ضابطاً في ليبيا، وكأحد أصحاب القمصان السود في الزحف الفاشي على روما، عمل في مشاريع موسوليني باستصلاح الأراضي في الريف، في ماكارسه وفي ساردينيا وأخيراً في قناة موسوليني، "باختصار، إما كان الرجل في الحرب، أو كان منشغلاً بتجفيف الأهوار؟"، "وطني أصلي، وبين حرب وأخرى ستندلع بعد حين عمل في الأراضي والري" (270)؛ أو المهندسون والمعماريون الذين أشرفوا على بناء "أبريليا" أول قرية- مدينة جديدة على قناة موسوليني، ووقفوا إلى جانب موسوليني في يوم الافتتاح (25 أبريل 1937)، كانوا يهوداً، ومئة بالمئة فاشيين، مثل براني الذي رغم جرحه عام 1936 غادر المستشفى ليعود إلى أسمرة ويقود فرقة "لوتوريا" ويشرف على مجزرة كبيرة ضد السكان هناك؛ الأسماء تلك هي جزء من مئات من اليهود الذي لم ينقذهم إخلاصهم للفاشية، وانتهوا إلى معسكرات الاعتقال أو إلى الموت. أما السكان، فكان أقصى ما يقولونه كما قالوا عن "الوطني" برّاني "هل رأيت برّاني؟ إنه لا يبدو يهودياً مثل بقية اليهود" (ص270)، وفي حالة اليهود الآخرين، يعلقون، "وماذ يعنينا الأمر، ففي النهاية نحن لسنا يهودا".
تلك هي الخلاصة. ماذا يقول المثل الإيطالي؟ "من قرر الاستسلام سلفاً، ستجعله الآلهة أعمى لامحال". هكذا هم الإيطاليون الذي سبحوا مع التيار، وهكذا كان الألمان، بل وهكذا كان العراقيون.
على فكرة: العراقيون. من يقرأ الرواية ووُلد في العراق، لن يجد التطابق هذا في تفكير هؤلاء الذين استسلموا مقدماً، وجعلتهم الآلهة يصابون بالعمى وحسب، بل سيجد أيضاً التشابه في شخصية القائدين "التاريخيين"، سواء في سلوكهما أو في الألقاب التي حصلوا عليها من الناس، "الدوتشه على حق دائماً"، و"صدام على حق دائماً"، حتى عندما كان يخطئ في النحو، في اليوم الثاني يظهر أساتذة اللغة العربية، ويبينون كم صحيح ما قاله، وكم أخطأ القرآن في الإعراب! أو كيف أنها تمطر، لكن ما أن يظهر الدونشة (أو ما أن يظهر صدام) حتى تشرق الشمس فجأة! أما الأمان، فلن يحصل عليه أحد مهما كان، الدوتشه مثلاً، "اليوم يرفع أحداً في يديه، في اليوم الثاني يجد المرء نفسه في الوحل" (ص18)، لا يهم سواء إذا كان رقم 2 كما هي الحال مع روسوني، أو رقم 3 كما فعل مع إيتالو بالبو، أو حتى إذا كان زوج ابنته، وإذا نجح أحد بالهروب منه، ولجأ إلى أميركا، كما فعل روسوني، فإن جيانو صهره قُتل رمياً بالرصاص بأمر منه، مثلما انتهى الحال بصهر صدام زوج ابنته المحببة حلا ومعه جميع إخوته، أما تجفيف الأهوار، فيبدو أن موسوليني صنع منه مدرسة. صدام هو الآخر جفف الأهوار وأطلق على قناله "النهر الثالث" أو "قنال صدام". نهاية الاثنين أيضاً متشابهة إلى حد ما. الدوتشه اعتقلوه بزي فلاح ثم شنقوه، صدام اعتقلوه في الحقل الذي رعى أغنامه فيه وهو طفل مختبئاً في حفرة مثل فأر، قبل أن يشنقوه.
ماذا قال مايسترو الرواية "السياسية" ستاندال "السياسة في عمل أدبي هي مثل طلقة مسدس في وسط كونسيرت: مقززة، لكنها تجبر على الانتباه إليها. سنتحدث عن أشياء وضيعة جداً" (صومعة بارما).
الإيطالي أنتونيو بيناكي تحدث هو الآخر عن أمور وضيعة في بلاده. وهل هناك أكثر وضاعة من الفاشية؟ لكنه وذلك ما يجعل "طلقته" الأدبية أكثر إثارة للانتباه. حتى الآن كان الحديث عن الفاشية من الجانب الآخر، ضحاياها. في المرة هذه، رواية الفاشية تأتي من جهة أولئك الذين سلّموا أنفسهم لها، باركوها، ففي النهاية لم يكن موسوليني وحده. بهذا الشكل تحدث الراوي في الرواية باسم جميع الإيطاليين. طريقته في الروي، بكل ما حوته من بروليسك وسخرية لاذعة، حافظت على تعدد الأصوات، وتلك نقطة تُحسب في النهاية لأنتونيو بيناكي. من الخطأ القول إن الأدب يجف عند الحديث عن السياسة. وحدهم أسطوات الفن الروائي يستطيعون تحويل السياسة إلى خيال أدبي تختلط فيه الوقائع مع الاختراع. وأحد أسطوات الرواية المعاصرين هو أنتونيو بيناكي بلاشك. " وفقط في هذا المغزى يمكن النظر إلى الوقائع المروية كحقائق صافية"، صحيح أنه غرف من مصادر أخرى لكن الكتاب هذا "لا يستنسخ: الكتب الأخرى كُتبت لهذا الكتاب" كتب الروائي في المقدمة. كيف لا وإن المصدر الأساسي الذي انتحل منه بيناكي في رواية قصة عائلة بيروزي، قصة إيطاليا الحديثة، هو الحياة ؟!
في تشابه الفاشية وعدواها
[post-views]
نشر في: 15 إبريل, 2014: 09:01 م