إلى أي مدى نستطيع الاستفادة من الطبيعة وما يحيطنا من أشياء ومفردات وتفاصيل وخامات لننجز أعمالاً فنية ، وهل تفرّد الفن ناتج عن تفرد الخامات والمواد الغريبة التي نستعملها في ذلك ؟ المواد والوسائط لها تأثير كبير بالتأكيد ، وهي أساس قيام وبناء ووجود العمل الفني . لكن الذي يعطي لذلك أهمية وتأثيرا أكبر هي الرؤية الفنية والفلسفة التي تقف وراء ذلك العمل ، مدى القدرة على وضع أقدامنا فوق أرض لم يسبقنا إليها أحد ، كيف نصنع دهشة جديدة من خلال مواد متوفرة في كل مكان تقريباً ، لكنها مع ذلك غير معروفة في إعداد أو صناعة الأعمال الفنية .
أثارني هذا الموضوع وأنا أتطلّع إلى أعمال الفنانة الغريبة والفريدة كلودي يونغسترا ( ولدت سنة 1963 ) التي تعمل وتعيش في مقاطعة فريسلاند (هولندا ) وهي نفس المقاطعة التي أعيش فيها . هذه الفنانة التي تنتج أعمالها بشكل كامل من الطبيعة وهي تجوب مشغلها الكبير ، الذي هو عبارة عن كنيسة قديمة تعود إلى القرن السابع عشر ، وبمحاذاتها حقل مفتوح وواسع مليء بأشكال وأنواع غريبة من النباتات والزهور والأعشاب . تربي هذه الفنانة في حقلها مئتي خروف ، حيث تستعمل صوف هذه الخراف تباعاً بانتظام لإنجاز أعمالها الفنية ، وهنا يقوم مساعدوها بتهيئة الصوف بأوقات مناسبة ، وفرشه على أرضيات المرسم ، ثم تجميعه على شكل لبدات وتهيئته للأعمال الفنية . في جانب آخر من الحقل تزرع هذه الفنانة مجموعة كبيرة ومتنوعة من النباتات التي تستخلص وتصنع منها ألوانا تقترب في نوعيتها من ألوان عصر الباروك الهولندي . هي شغوفة بالاكتشاف ويسحرها أن تصنع كل شيء بنفسها ، فالعملية فيها الكثير من التشويق والمغامرة والعثور على أشياء وأشكال وتكوينات جديدة ، وفي كل مرة تنظر إلى الطبيعة وتنتظر الوقت المناسب وهي تترقب كل شيء ، من ارتفاع النباتات والزهور وأشكالها وألوانها ، إلى حجم وكثافة الصوف وهو مايزال يحيط بأجساد الخراف . أعمالها الفنية فيها حياة ودفء وحضور حقيقي ، الصوف مازال حياً ، وهناك شيء من الخراف مازال عالقاً في الأعمال الفنية ، والنباتات أيضاً مازالت حاضرة وهي تترنح على نسمات فرسيلاند وبين حقولها.
وأنت تشاهد هذه الأعمال تشعر بأن الطبيعة تحيطك وتدفئك أيضاً ، بل تصبح جزءاً منك . عشرين سنة تقريباً وهي تقوم بذلك وفي كل مرة تنتظر نتائج جديدة وهي تنقع الصوف في أوان وقدور كبيرة تحتوي على خلاصة ألوان الطبيعة وسحرها الأخّاذ . هذه الفنانة التي استغنت منذ زمن عن المواد والألوان المصنعة وأنتجت أعمالها من خلال منتجات مزرعتها الخاصة ، نجحت نجاحاً كبيراً وأصبحت العروض تنهال عليها من جهات وبلدان عديدة حيث تشغل أعمالها الآن قاعات المتاحف وهي تتدلى عادة من الأعلى لتشغل مساحات كبيرة ومؤثرة . ولم يقتصر عملها على أعمال المتاحف ، بل ذهب تأثيرها نحو الأزياء ومصممي البيوت الذين استفادوا أيضاً من تجريداتها التي تتناسب مع التصميمات الداخلية للمنازل . المثير في أعمالها الفنية هي أنها تبدو غير مكتملة أو أن العمل عليها ما زال جارياً ، وهذا ما يعطيها بعض الحياة والاستمرارية أيضاً . ومثلما أن لكل نبات تستعمله ، خصوصيته من حيث اللون والتأثير فهناك أيضاً الصوف وطريقة إغماسه وبقائه متوحداً مع اللون . الخبرة التي اكتسبتها من خلال عملها الطويل جعلتها تعرف جيداً الطريق نحو العشب المناسب لصوف أغنامها وهي تفكر بالخامات القادمة لمعرضها الجديد.
تربي الأغنام لتصنع من صوفها أعمالاً فنية
[post-views]
نشر في: 18 إبريل, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...