في عودة أخرى إلى المدينة في العراق وعلاقتها بقوانين البناء تجدر الإشارة إلى ثلاثة أمور تطبع هذه العلاقة وتشكلها. يتعلق الأمر الأول بتشريع قوانين البناء هذه أو ما يمكن أن نسميه بـ (منطقية القوانين)، ويتعلق الثاني بتطبيقها من قبل كلا المشرع والمواطن أي
في عودة أخرى إلى المدينة في العراق وعلاقتها بقوانين البناء تجدر الإشارة إلى ثلاثة أمور تطبع هذه العلاقة وتشكلها. يتعلق الأمر الأول بتشريع قوانين البناء هذه أو ما يمكن أن نسميه بـ (منطقية القوانين)، ويتعلق الثاني بتطبيقها من قبل كلا المشرع والمواطن أي (إطاعة القوانين)، ويتعلق الثالث بطبيعة قوانين البناء هذه عموما ً وبـ (مرونة القوانين) خاصة.
منطقية قوانين البناء: ان الهدف من قوانين البناء هو تنظيم المدينة ومبانيها وخدمة ساكنيها والحفاظ على حياتهم وممتلكاتهم، ومن غير المنطقي أن لا يستند تشريع هذه القوانين إلى منطق واضح وعلمي قابل للفهم من قبل المستفيدين منها، كما أن الهدف منها هو إقناعهم بها قبل فرضها عليهم لتطبيقها.
فما هي منطقية قوانين البناء العاملة في العراق الآن؟ وهل تستند هذه القوانين إلى دراسات وبحوث تلائم الوضع العام للبلد وحاجة المواطن والبيئة وطبيعة المجتمع والحياة في العراق؟ وهذا هو المفترض بها.
تختلف الجهة أو الجهات المشرّعة لقوانين البناء باختلاف الدول والأنظمة الإدارية العاملة فيها، فقد تكون وزارة التخطيط أو وزارة الإسكان أو مجالس الإعمار أو تشكيلات مشتركة تتصدرها عادة إحدى هذه المؤسسات وتشترك معها الأخرى، وقد يتدخل مجلس النواب ومجالس المحافظات والبلديات في تشريع وتعديل بعض القوانين. في حين يتصدر المسؤولية في بعض الدول مؤسسات علمية بكوادر متخصصة تستند في قراراتها إلى بحوث علمية رصينة وإحصاءات موثقة ومشاهدات وتجارب مؤثرة كمنظمة ICC “International Code Council” الأمريكية التي تضع قوانينها في 14 إصدارا ً، ومنظمة CEN “Comité Européen de Normalisation” الأوروبية التي تصدر سلسلة طويلة من الإصدارات في مجالات متعددة جدا ً. و ينتمي إليها 33 دولة معظمهم من الاتحاد الأوروبي إضافة إلى 17 دولة أخرى ترتبط بالمنظمة بعضها من الدول العربية كمصر وتونس والأردن ولبنان وليبيا والمغرب والتي تنتمي للمنظمة العالمية للمعايير ” International Organization for Standardization” ISO التي ينتمي إليها 164 دولة العراق أحدها.
فما هو مستوى تطبيق هذه المعايير في العراق وبالذات في الفترة الراهنة؟
قد يستقي بلد ما معاييره من منظمة أو جهة واحدة أو ربما أكثر، وهو أمر ليس سلبيا ً في حد ذاته ولكن لابد من تطويع هذه القوانين وملاءمتها للواقع العام وطبيعة البلد ومناخه وإمكاناته ومستوى المعيشة فيه وحركة التنمية التي يتحرك البلد صوبها. ولا يشير الوضع الراهن في العراق إلى أن المؤسسات المسؤولة تعير هذه المسألة أهمية واضحة لا في تهيئة الكادر المتخصص في إيجاد هذه المعايير وبالذات قوانين البناء، ولافي تطويع المستورد منها، ولعل الأشد من ذلك هو عدم الاكتراث بتطبيق هذه القوانين بشكل مقبول.
وفي العودة إلى منطقية قوانين البناء فإن المواطن لا يدرك هذه المنطقية في معظم الحالات كي يكون متقبلا ً لها، ولعل هذا ما يدفعه في أغلب الأحيان إلى التنصل من تطبيقها ومحاولة الالتفاف عليها ولا يجد المسؤول والعامل عليها منطقا ً واضحا ً لإقناع المواطن بذلك سوى أنها فرضت عليهم.
فما هو المنطق في تحديد الحد الأقصى لمساحة الوحدة السكنية بـ 800 متر مربع مثلا ً والحد الأدنى بـ 200؟ وهل يجدر تطبيق هذه الحدود في ضواحي المدن المنخفضة الكثافة كما في مراكزها المكتظة؟ أو في المدينة وفي الريف كذلك؟ ولماذا لا يسمح لمالك الأرض ببنائها بنسبة 100% إذا كان البناء ملتزما ً بالقوانين الأخرى؟ ولماذا تستوجب القوانين الارتداد عن حدود قطعة الأرض إذا كان التخطيط الحضري قد منح الشارع ما يكفيه من فضاء، وكأن القانون يجبر المالك على التنازل عن بعض ملكه لأمر لا منطق فيه؟ وما الحكمة في منع فتح النوافذ مباشرة على حدود الجار، والسماح بذلك بعد الارتداد مترا ً واحدا ً فقط؟ ما الذي يكسبه أو يخسره الطرفان إذا كان للجار حق الغلق في كلتا الحالتين؟
تنحو بعض الدول الآن ومن باب إشراك المواطن في بعض هذه القوانين إلى اتباع أساليب ديمقراطية تبدأ بتوضيح المنطق من وراء هذه القوانين، وتوضيح وإيجابياتها في حال تطبيقها، وسلبياتها عند عدمه، ومن ثم استقراء الرأي العام في الإبقاء على بعض هذه القوانين. وقد يتحول بعض القوانين إلى موضع استفتاء عام تجريه الدوائر المختصة للوصول إلى قرار يكون المواطن هو صاحب الصوت الأعلى فيه.
إن وضوح المنطق في قوانين البناء يفضي إلى ان يلتزم المشرّع – كوزارة التخطيط - بإيجاد السبل اللازمة لتفعيل هذه القوانين، ويدفع العامل عليها – كبلديات المدن – إلى الإخلاص في تطبيقها، كما يقنع المواطن بتقبلها واحترامها.
إطاعة القوانين : إن المفترض من وضع القوانين هو إطاعتها وتنفيذها، لا مخالفتها والالتفاف عليها، وفي عكس ذلك تتحول جهود الجهات المشرعّة لها والمنفذّة لها عبثا ً وهدرا ً للاقتصاد وتخريبا ً متعمدا ً، أو بعبارة أشد فسادا ّ إداريا ً يتضمن في نفسه جهلا ً من قبل الموظف بما يعمل، وجهلا ً آخر من قبل المواطن بما يخرّب.
إن القوانين التي لا تطاع ولا تنفذ لا معنى لها. ولتوضيح المقصود من ذلك هذه بعض العبارات الواردة في ضوابط إجازات البناء الصادرة عن أمانة بغداد والمنشورة على موقعها الرسمي:
" يجب توفير مصعد كهربائي وسلم هروب اضطراري اذا كان ارتفاع المبنى أربعة طوابق فاكثر. "
" عدم السماح باستغلال الرصيف لوضع المواد الإنشائية نهائيا" ضمن حدود مركزي الكرخ والرصافة ( ضمن المنطقة التراثية ) ويتم وضعها داخل حدود الملك سواء كان ذلك لتشييد جديد أو إضافة بناء أو ترميم. "
" يجب ان يراعي تصميم المبنى متطلبات السلامة ضد مخاطر الحريق وحسب تعليمات الدفاع المدني. "
" توفير مرافق صحية لكل محل تجاري أو توفير مجموعة مرافق للطابق الأرضي. "
" عدم السماح بوضع أجهزة ومجاري التبريد والمداخن على واجهات البناء وانما تصمم كجزء متكامل مع البناء بحيث لاتؤدي إلى تشويه المظهر الخارجي للبناء. "
" توفير مهبط للسمتيات للأبنية التي يزيد ارتفاعها عن (6 ) طوابق ."
مرونة القوانين : إن الالتزام المفرط بالقوانين قد يؤدي إلى نتائج عكسية ويتحول إلى محدد لعملية البناء أولا ولعملية الإبداع والتجديد فيها ثانيا، وأن المرونة في حدود معقولة جدا ً غالبا ً ما تؤدي إلى جعل القوانين موضع قبول من قبل جميع الأطراف المشاركة. فالهدف من تطبيق القوانين هو تيسير البناء لا عرقلته.
لقد وصل الأمر في تطبيق قوانين البناء في بعض الدول الملتزمة بها إلى حد بدت معها مزعجة للمصمم Designer والمنفذ Entrepreneur وحتى المستخدم User . فمثلا تمنع قوانين سلامة الاطفال Child Safety في السويد بعض العناصر المستخدمة في ملاعب الأطفال لدى جارتها الدنمارك مما يجعلها أقل جمالية وأكثر مللا ً عما هو هناك.
غير أن المرونة في تطبيق قوانين البناء في العراق وصلت إلى حد الفوضى والى حد إلغاء هذه القوانين، وأن أجراء فحص Inspection وتقييم Evaluation لمعظم المباني المنجزة في العراق الآن سيثبت أنها غير مطابقة لقوانين البناء Building Codes وأنها تفتقر إلى شروط السلامة Safety والأمان Security والإتاحة Accessibility فضلا عن افتقارها إلى الجمالية Aesthetic .