ان "سياسة التعقل" ليست مبدأ اخلاقيا مثاليا، بل مصلحة مستقرة، مقابل الارباح السريعة الزائلة، التي تأتي بها سياسات الجنون. وسأستشهد ببعض حوادث الحرب العالمية الاولى اليوم.
اصدقاء مقربون من بعض الاطراف التي ستكون لها كلمة في مفاوضات تشكيل الحكومة، يقولون ان علينا ان نبني توقعاتنا لما سيحصل، على الوقائع والمصالح التي "ترجح كفة" نوري المالكي، وأن نتجنب التحمس ل"المبادئ الاخلاقية" التي نطالبها ان تحرم سلطان العراق ومن يشتهي الاستبداد ويفتقد المهارات السياسية، من ولاية ثالثة.
غير اننا في الواقع، لا نطالب الساسة بأن يكونوا "اخلاقيين" حين نحاول التفسير والقراءة، لكن تعريف "المصالح" بحاجة الى نظرة اعمق تذيب غشاوته. والفرضية التي نشتغل عليها تقول: ان العمل مع المالكي يتعارض مع المصالح ومع الاخلاق!
ان "المصالح" كما يفهما المالكي هي حصول الساسة على مناصب، مقابل ان يلتزموا الصمت ولا يعترضوا. وعليهم أثناء ذلك ان يسمعوا منه دوما، تلويحا بمذكرات اعتقال لهم او لمقربيهم، وملفات فساد مسيسة، وسيناريوهات مجنونة متعسفة. وليت المخاطر كانت تنحصر بالساسة، ذلك ان التدابير الخاطئة تطفح من كأس السلطة، فتسيل سوداء على أوعيتنا، والمجازفات التي يخوضها الحاكم، انما هي مجازفات بمصائر الجميع.
ان تشكيل الحكومة الجديدة لابد ان يستند الى المصالح، ولن نطالب ب"أخلاقيات زائدة"، لكن العملية ليست مجرد تشكيل حكومة، بل هي بالدرجة الاولى، عملية سحب ثقة متأخرة، عن رجل يلغي السياسة ويمنح وظيفتها للارتجال المتعسف العسكري (الفاشل ايضا)، في بلد لن تهدئه سوى السياسات الحكيمة وروح كبيرة لا تمل من الحوار والابتكار والاستئناس برأي الناس، لبناء ضمانة بعد انهيار كل الضمانات ومسارعة داعش السوداء لملء فراغ الثقة!
المالكي تفوق حتى الان بقدرته على ان يغامر ويدخل لعبة القمار السياسي لاذلال خصومه. ولا طريقة لوقف هذا الارتجال المكلف، سوى مغامرة مضادة يخوضها انصار التعقل. واذا كانت مغامرته تهدد بضياع استقرارنا، فإن مغامرتكم يا خصوم المالكي لن تجعلكم تخسرون سوى تلك المناصب المنقوعة بالقلق والتهديد المستمر، والتي يمكنكم تأمينها بصمود التفاوض مع الداخل والخارج.
ان انصار السياسة المتعقلة، في بلد ينهكه غياب السياسة، عليهم ان لا يشعروا بالوحشة هذه الايام. فمسارهم رغم انه يتعرض للتشكيك، من اصحاب "المصالح المنغصة"، امامه فرصة ليكون نقطة اساسية تكسبنا الاحترام وتسمح لنا بدخول التاريخ ثانية، كأمة تكافح لاستعادة الاعتدال وفصل حساباتها عن المغامرين وصانعي العداوات الواسعة غير المبررة.
اقرأ هذه الايام كثيرا عن مطلع القرن العشرين الذي كان تصارعا بين سياسة التغلب والتسلط العتيقة، واندفاعة الحداثة السياسية التي تعيد تعريف السلام بوصفه مبدءا واقعيا، والحرب بوصفها فعلا غير واقعي ومكلف لابد ان يتوقف.
فحين اندلاع الحرب العالمية الاولى وجد الناس انفسهم منقادين لخطاب غوغائي يطبل للحرب، وكان هناك شجعان يساريون وليبراليون يعارضونها، تحملوا اتهامات بالخيانة للمعركة المقدسة، لكنهم لم يشعروا باليأس فنظموا مؤتمرات عدة بداية من عام ١٩١٥ للمطالبة بعقد صلح لا غالب فيه ولا مغلوب. وحتى الثورة الروسية كانت نواتها احتجاجا على القيصر الذي اضاع السلام. ونتج عن ذلك تأسيس احزاب اقليات في المانيا والنمسا والمجر، ظلت تضغط عبر البرلمان، وجرى بعدها استقطاب نقابات العمال في كل اوربا لمواجهة عنجهية الحكومات التي قذفت بالملايين الى المذابح الدولية. فعمال مصانع الحرب اضربوا عام ١٩١٧، وكان لتمردهم دور مهم في دفع مفاوضات السلام اللاحقة. ودفعة واحدة اضرب مليون عامل بريطاني مطالبين بوقف الحروب. كما ان الدين كان له دور لافت، اذ اعلن بابا الفاتيكان يومذاك بيندكتوس الخامس، عدم جدوى المذابح، وأنتج الامر تمردا واسعا شمل كل الجيوش.
والدرس هو ان انصار التعقل قد يبدون اقلية حالمة اول الامر، لكن العمل الدؤوب يعيد الامم الى رشدها، ويخفف ضرائب الجنون. وهذه مسؤولية مفاوضات ٢٠١٤.
الحاكم المقبل.. المصلحة والمبادئ!
[post-views]
نشر في: 5 مايو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
mazin ali
مقال يستق القراءة - مبدع سرمد الطائي